فصل في اشتقاق لفظ "اللغة"
من كتاب أدب الخواص لأبي القاسم الوزير المغربي
رأيناه كالتوام لما قدمناه من اشتقاق العرب. في الحاجة إليه، وفي النيابة عن أبي بكر رحمه الله بإيراده، وكثير ما يجري التساؤل بين أهل العلم عن هذه الكلمة وما رأيت فيها لأحد من العلماء المتقدمين ولا المتأخرين قولاً شافياً والله الموفق.
قال الحسين بن علي: لسنا نشك في أن المقصد باسم العرب معنى واحد من المعاني التي ذكرناها، وكذلك اللغة، لأن واضع الكلمة إنما يقصد بها الإخبار عن المعنى. فإن استردفت معنى آخر كان رجحاناً، ولكن لما كان الحقيقة المقصد خافياً عنا كنا مضطرين إلى حشد الأقوال لتطيب أنفسنا بأن الصواب في جملة واحدة مما أوردناه، وعلى هذا الاعتبار ففي اشتقاق اللغة سبعة أقوال: فالقول الأول: أنها من لغيت بالشيء الغي إذا أولعت وأغريت به. قال الفراء: يقال لغيت بالكلام أقوله، ولغي بالماء يشربه، إذا أولع به، وردده، ولغيت بمصاحبة فلان إذا لهجت به. وقال أبن الأعرابي أيضاً: لغى به ولكى به إذا لهج به. وقال أبو عبيد في " غريب المصنف ". عن الكسائي: لغيت بالماء ألغى إذا لزمت شربه، أو نحوا من هذا اللفظ.
وفي وزنهما قولان أحدهما أن أصلها كانت لُغية عن وزن فُعلة، فحذفت الياء تخفيفاً وبنيت الكلمة على النقص مع نظرائها جماعة الألفاظ، فإن قال قائل: فما بالهم لم يحذفوا الياء من دجية واحدة الدجى، وحكمه حكم لغيه؟ فجوابه: أن القياس إنما يطرد في الأصول والفروع المطرود عليها، فأما الحذف فإنما هو تخفيف، وفاعل التخفيف بالخيار فيه، إن شاء حذف وإن شاء أقر، وذلك على حسب المواقع في كثرة الاستعمال العاذرة في طلب الاختصار.
والقول الآخر أن وزنها فعلة، وأصلها لغية، فانقلبت الياء ألفاً لتحريكها، وانفتاح ما قبلها، وإنما كان الحكم حرفي المد واللين أن ينقلب كل واحد منهما ألفاً إذا تحرك وانفتح ما قبله، لأن أخف أحواله أن يسكن، وما قبله منه، أما سكونه فلان به تمكن المد فيه، وإما كون ما قبله منه فليلاحمه ويعينه ولا ينافره فما يراد به من مده ولينه وأوسط أحواله أن يسكن، ما قبله ليس منه، وأثقل أحواله أن يتحرك وما قبله ليس منه، فيجري مجرى الحروف الصحاح، وتفارق صفته المطلوبة فيه بحركته التي تزيله عن اللبن. وبقلة مساعدة ما قبله له، ومشاكلته إياه، فإذا جاء حرف المد متحركاً وما قبله ليس منه، جاء على أثقل أحواله، فيقلب ألفاً لينتقل إلى أخف أحواله، وهو سكونه وما قبله منه، فلما صار لغاة آنسهم هذا التغير بتغير آخر، فحذفوا الألف تخفيفاً، ولأن هذا الوزن قليل في الأسماء المفردة، وإنما هو من صيغ الجموع، مثل قضاة ورماة، فصار لغة كما ترى. ومن عادتهم أن يتبعوا نقص التغير نقصاً. ألا ترى إلى قولهم ليس وأصلها ليس، بوزن فعل، فكان قياسهم يوجب أن تنقلب الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فيقال: لاس، ما انقلبت ياء بيع فقيل: باع، فلما وجدوها قد خالفت في التصرف، ولزمت باباً واحداً، وهو صيغة الماضي لعلة أخرى لا نرى الإطالة بذكرها في هذا الموضع، آنسهم ذلك بتغيرها ثانياً، وجراهم على ركوب الخلاف بها عودا بعد بدءٍ، فقالوا فيها: ليس، وفارقوا بها أخواتها ولم يقولوا: لاس، مثل زال وصار، وهو فعل من الليس، وهو الشدة والشجاعة، وكأن تقدير قولهم: ليس زيد قائماً، وامتنع وصعب أن يكون زيد قائماً، هذا على رأي النحويين. فأما أهل اللغة فيحكون عن الخليل أنه قال: ليس إنما أصله لا أيس، لأن أيس عنده لفظة يخبر بها عن الموجود، فإذا قالوا: لا أيس فكأنهم قالوا: لا موجود، فثقل عليهم فقالوا: ليس، والأيس في كلام العرب التأثير، فأخبره به المتكلمون عن الموجود، لأن الموجود لا بد أن يكون له أثر أو تأثير أو نحو ذلك. وقال الأصمعي في كتاب " نظائر الأفعال ": آسه ييئسة أيساً إذا ثر فيه، ومنه أيسه يويسه بوزن فعلة، يفعله مشدداً، وأنشد يعقوب:
إن كانت جلمود صخر لا أؤيسه ... أوقد عليه فأحميه فينصدع
إن قناني لنبع لا يؤيسها ... عض الثقاف ولا دهن ولا نارُ
وقال أبو خلدة اليشكري - بخاء مفتوحة معجمة من فوق واحدة - قال أبو بكر ابن دريد: ومن غير ذلك فقد أخطأ، وهو ابن عبيد بن منقذ بن حجر بن عبد الله بن سلمة بن حبيب بن عدي بن جشم بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر بن وائل:
ما يسر الله من خير قنعت به ... ولا أموت على ما فاتني جزعا
ولا يؤنس من عودي خوالقه ... إذا المغمز منها لان أو خضعا
خوالقه: الأحداث التي تملسه، والأخلق: الأملس.
ويكون وجه هذا الاشتقاق إنها أعنى اللغة، لما كان أهلها ملازمين لها، وكانت قد صارت كالسمة لهم، والشيء اللاصق بهم، كانوا كأنهم قد أغروا بملازمتها، وأوزعوا الدؤوب عليها، وكانت هي للصوقها بصفاتهم كالمغراة أيضاً بهم، فلهذا جاز فيها فعله بتحريك العين، لأن فعله اسم فاعل، مثل ضربة لفاعل الضرب وحفظة للحافظ.
والقول الثاني: أنها من اللغو، وهو النطق، ومنه سميت لواغي الناس، أي أصواتهم ومنطقهم، وهذا من المصادر التي جاءت على فواعل، وهي قليلة، مثل قولهم سمعي رواغي الإبل، وثواغي الشاة، يعني رغاءها وثغاءها. قال حميد بن عبد الله بن عامر بن أبي ربيعة بن نهيك ابن هلال بن عامر بن صعصعة، وقد قال بعض النسابين في نسبه قولاً آخر، وهذا أحب إلي لأني رأيت أبا علي الهجري يرويه عن شيوخه من الأعراب وكان الهجري أعلم المتأخرين بالنسب، وغير الهجري أيضاً يروي عن أبي عمرو وغيره من الروات:
رعين المرار الجون من كل باطن ... دميث جمادى كلها والمحرما
إلى النيرو العلباء حتى تبدلت ... مكان رواغيها الصريف المسدما
ويقول: استبدلت عوض الرغاء الذي منها يأتي ضراً وهزلاً الذي يأتي سميناً وأشرا.
وقواضي الديفان: يراد به قضاؤه. قال أبو وجزة يزيد بن عبيدة من بني سعد أبن بكر من هوزان:
وإذا قطمتهم قطمت علاقماً ... وقواضي الذيفان فما تقطمْ
والنواطق: يعنون به النطق. قال كعب بن زهير المزني:
وأدركت ما قد قال قبلي لدهره ... زهير وإن يهلك تخلَّد نواطقهْ
والأوامر والنواهي: يعنون الأمر والنهي، كذا قال اللغويون.
وقد يجوز أن يكون لواغي جمع لاغية، وكذلك كله يجوز أن يكون جمعاً، والأوامر والنواهي يذهب به إلى العزمات والإرادات إلا أن الأول محفوظ القوم.
ومن اللغو المنطق قول الله عز وجل: (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه) . قال الخليل: معناه من اختلاط الكلام، والله اعلم بكتابه ومنه في الحديث: " من قال في الجمعة صه، فقد لغا " أي تكلم، كذا قال الخليل أيضاً. ومثله قول ثعلبة أبن صعير بن خزاعي بن مازن بن عمرو بن تميم بن مرِّ بن أدَّ.
أسمي ما يدريك أن رب فتية ... بيضٍ الوجوه ذوي ندى ومآثر
باكرتهم بسباء جونٍ ذارع ... قبل الصباح وقبل لغو الطائر
أي قبل تنطق الطيور، ويقال منه: لغت الطيور والناس أيضاً تلغو، ولغيت تلغى إذا نطقت وسمع نطقها، وقال عبد المسيح بن عسلة، أخو بني مرة بن همام بن مرة بن ذهل أبن شيبان - وقد رويت لغيره وهي له أثبت عند المفضل بن محمد بن يعلي الضَّبيِّ:
وعازب قد على التهويل جنبته ... لا تنفع النعل في رقراقه الحافي
صبحته صاحباً كالسيد معتدلاً ... كأن جُوُّجُوُّهُ مداك أصداف
- جعل المداك من صدف لأنه أحسن له وأكثر إشراقاً.
باكرته قبل أن تلغى عصافره ... مستخفياً صاحبي وغيره الخافي
لا ينفع الوحش منه أن تحذره ... كأنه معلق منه بخطاف
إذا أواضع منه مرَّ منتحياً ... مرَّ الأتي على برديِّه الطافي
وهذا الشعر من حسان أبيات المعاني.
ويقال أيضاً للصوت اللَّغا مقصور، يكتب بالألف مثل اللَّغو قال الجعدي:
وعادية مثل الجراد وزعتها ... لها قيروان خلفها متكتب
كأنَّ قطا العين التي فوق ضارج ... خلاف لغا أصواتها حين تقرب
شبه لغط القطا باختلاف أصوات الخيل، وخلاف هاهنا بمعنى اختلاف، ويقال: هذه لغتهم التي يلغون بها أي ينطقون بها كما يقال هذه لعبتهم التي يلعبون بها، ووزنها على ذلك فعلة اصلها لغوة، فلما وجدوا الواو متحركة قبلها ساكن وجب ثبوتها وذلك مستكره عندهم لنقصان فضيلتها به، وذلك أنها إذا تحركت نقص المد فيها، وثقلت زيادة على ثقلها، فاحتيل في تغيرها بأن حركوا العين قبلها، فلما تحركت العين، انقلبت الواو ألفاً فصارت لغات، فحذفوا الألف تخفيفاً على المذهب المتقدم في الجراءة على 00 بالتغيير، فصارت لغة، وأهل اللغة يقولون حذفت الواو للنقص، ويقتصرون من الاعتدال على هذا القول.
والقول الثالث: إنها مشتقة من اللَّغو، وهو الذي لا يعبر لقلته، ولا يحتسب لدقته، أو لخروجه على غير جهة الاعتماد من فاعله كما قال الله عز وجل: (لا يؤاخذكم الله باللَّغو في إيمانكم) ما لم تقصدوه وتعتمدوه، والله اعلم بكتابه. وقال المثقب العبدي - واسمه عائذ وقيل عايذ الله، وكلاهما مروي، بن محصن بن ثعلبة بن وائلة بن عدي بن عوف 000بن عذوة بن 000 بن نكرة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس -:
هل عند غانٍ لفوادٍ صد ... من نهلة في اليوم أو في غد؟
يجزي بها الجازون عنى ولو ... يمنع شربي لسقتني يدي
هل عندها سقياً لذي غلةٍ ... إلا بما قالت فلم يوجد
إلا ببدري ذهب خالصٍ ... كل صباح آخر المسند
من مال من يجبي ويجبى له ... سبعون قنطاراً من العسجد
أو مائة يجعل أولادها ... لغوا وعرض المئة الجلمد
ومنه ألغيت هذا الباب من الحساب، إذا تركته فلم تعده، وقال غيلان يهجو هشام بن قيس المرئي أحد بني امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم:
يعد الناسبون إلى تميمٍ ... بيوت الحي أربعة كبارا
يعدون الرباب لها وسعداً ... وعمراً ثم حنظله الخيارا
ويسقط بينها المرئي لغوا ... كما لغيت في الدية الحوارا
لغواً: أي ساقطاً لا يعد كما تسقط الفصلان في الديات.
وقال عمرو بن أحمر الباهلي:
يظل رعاؤها يلغون منها ... ولو عدت نظائر أو جمارا
والجمار: الجماعة. يقول: يسقطون منها ما هو نظير للجيد المختار، ويسقطون الجماعة لا يبالون بها، فاللغة لما طرح بها ما سواها وعطلت ما كان من اللغات قبلها، سميت بذلك، كما يقال لهوة للشيء الذي يلهى به، ولعبة للشيء الذي يلعب به، لأن اللعبة آلة للعب، كما أن اللغة آله لإلغاء ما قبلها من اللغات.
والقول الرابع: أنها مشتقة من اللغو، وهو الباطل، قال الله عز وجل: (وإذا مروا باللغو مروا كراما) قال الخليل: وهو الباطل، قال ومنه قول الله عز وجل: (لا تسمع فيها لاغية) أي كلمة باطل فاحشة، والله أعلم بكتابه.
واللغا مقصور يكتب بالألف مثل اللغو، قال العجاج:
فالحمد لله العلي الأعظم ... ذي الجبروت والجلال الأفخم
ورب كل كافر ومسلم ... ورب أسراب حجيج كظم
عن اللغا ورفث التكلم
يعني عن الباطل. ووجه الاشتقاق أن هذه اللغة أبطلت ما قبلها، وجعلته كالمحال الذي لا يقال، والباطل الذي لا يسمع، ومعناه قريب من معنى الفصل الذي قبله، وهما جميعاً في التصريف يجريان مجرى الباب الذي قبلهما، ويغنيان به عن شرح تصريفهما.
والقول الخامس: أنها مشتقة من النغي وهو الكلام. قال أبو عبيد: يقال أبو عبيد: يقال سمعت منه نغية، وهو الكلام الحسن، وأبدلت من النون لام، وبني منه لغية على وزن فعلة، وإبدال اللام من النون كثير من كلامهم، مثل لمق الكتاب ونمقه - وهتن وهتل، وأدكن وأدكل - من الألوان - وغير ذلك مما لو ذهبنا إلى استقصائه لاحتاج إلى جزء مفرد نجرده له، ويكون وزنها فعلة وأصلها لغية، ويجري أمرها مجرى لغوة من اللغو، وعلى ذلك التعليل بعينه، وذاكرت أبا أسامة بهذا الوجه لما عن لي فأعجبه.
والقول السادس: أنها مشتقة من لاغ الشيء يلوغه لوغاً إذا أراده في فمه ثم لفظه - عن ابن دريد - ويقال أيضاً: سائغ لائغ، ويقال: سيغ ليغ - عن ابن الأعرابي - ويكون وزنها فعلة، وأصلها لوغة، فاستثقلت ثلاث ضمات متتابعات، لأن الواو بمنزله ضمتين،فحذفت إستخفافاً، فصار لغة. ووجه هذا الاشتقاق أنها لصحة أوزانها واعتدال أقسامها، وأصالة آراء الناطقين بها لا تخرج الكلمة منها إلا بعد ترو ونظر ونظر وتفكير، وأنها تلجلج وتردد قبل إرسالها. وتزم عند صحة العزم على إنفاذها، كما قال شداد بن أوس: ما تكلمت بكلمة كذا وكذا حتى أخطمها وأزمها.
فإن قيل: لو كان أصلها لوغة لكان جمعها على لوغ؟! ففي ذلك أجوبة: أولها ما صدرنا به هذا الفصل من الاعتذار لما نرده، والتنبيه على أنه لا بد أن يكون بعضه مخالفاً لما قصد به واضعه.
والثاني: أنه يجوز أن يكون مجموعاً على لغاً قياساً به على نظائره في اللفظ، فإن الشيء يحمل على المشاكلة الظاهرة كثيراً، مثل ما قلب الفند الزماني شهل بن ربيعة بن زمان بن مالك بن صعب بن علي بن بكر بن وائل فقال:
أيا تملك يا تملي ... ذريني وذري عذلي
فثوبان جديدان ... وأرخي شرك النعلِ
ومني نظرة بعدي ... ومني نظرة قبلي
ونبلي وفقاها ك - عراقيب قطاً طُحلِ أراد بفقاها جمع فوقة، وكان ينبغي أن يقول: فوق فقلب كما ترى.
وقال يزيد بن زياد بن ربيعة بن مفرغ الحميري في مثله: لقد نزع المغيرة نزع سوءٍ وعرق في الفقا سهماً قصيراً والثالث: أن جمع اللغة - فيما ذكره الخليل - لغات ولغين، ولم يأت فيه بلغى، فعدم السماع قد كفانا مؤونة ما يعترض به علينا طريق القياس.
وقال ابن دريد: إن العرب تختار أن تجري الأعراب على التاء من اللغات، وعلى ذلك قول أهل الكوفة، وذكر الكسائي أنه سمع العرب تقول: سمعت لغاتهم، والبصريون، يمنعون ذلك أشد المنع ويقولون: إن اطرد هذا في المعتل اطرد في الصحيح، وانتقصت به الأصل.
والقول السابع: أنها مشتقة من الولغ، وهو ورود السبع والذئب والكلب الماء. ووجه هذا الاشتقاق أن ولغ الذئب متصل منتظم، ولذلك قال حاجز الأزدي اللص:
بغزوٍ مثل ولغ الذئب حتى ... يبوء بصاحبي ثأر منيمُ
يبوء بصاحبي أو يقتلوني قتيل ماجد بطل كيمُ وقال آخر:
نقاذف بالغارات عبساً وطيئاً ... وقد هربت منا تميم ومذحجُ
بغزوٍ كولغ الذئب غادٍ ورايحٍ وسيرٍ كصدر السيف لا يتعوجُ وقال ثعلب في " أماليه ": يقال هو في خيرٍ كولغ الذئب أي دائم متصل انتهى. فكأنها لا تساق نظامها وأتزان ألفاظها تجيء مسرودةً منضودةً، لا تفصل بينها فترة عيَّ، ولا تنحو بها هجنة هذرٍ، كما أن ولغ الذئب نسق واحد، كعد الحساب السريع، وكحظ الكاتب الوشيك، ووزنها على هذا فعلة، وأصلها ولغة، وهم يستثقلون حركة الواو بالفتح، فيقلبونها لذلك يقولون في واحدٍ: أحد، وبالكسر فيقلبونها يقولون في وسادة إسادة، وينتهي بهم استثقال الحركة على الواو أن يسقطوا الكلمة بالواجدة، ويتخذوا غيرها عنها عوضاً مثل ما أهملوا الكلام بودد وودع، واستغنوا عنهما بترك، فكيف إذا اتفق أن حركة الواو بالضمة، وهي أثقل الحركات على جميع الحروف وعلى الواو خاصة، فنقلوا حركة الواو إلى اللام فبقيت الواو ساكنة، وليس يبتدأ بساكن، فحذفوها فصار لغة - كما ترى
فإن قيل: إن النسبة إلى اللغة بلغوي يبطل هذا لأنه كان يجب أن يقول: ولغي؟ فجوابه ما ذكرناه في مقدمة الفصل، على أنه يجوز أن تكون النسبة جاءت مقلوبة مثل لعمري ورعملي، ويكون غرضهم في قلبها عند الجميع شيئين: أحدهما أن لا يبتدأ بالواو مضمومة، والثاني: لكيلا يفجا السمع تغير بين المنسوب والمنسوب إليه في أول الاسم ومقدمه، والمقدم هو المهم عندهم، والمقلوب في كلام العرب مما يجوز القياس عليه لكثرته، قال أبو عبيد القاسم بن سلام في " غريب الحديث ": إن رجلاً سأل رسول الله (فقال أنا نصيب هوامي لإل. فقال (: " ضالة المؤمن - أو المسلم - حرق النار " وفسره أبو عبيد فقال: الهوامي الضوال، واتبع ذلك شرحاً طويلاً ثم قال: وليس هذا من الهوائم في شيء، لأن الهوائم جمع هائم، إلا أن تجعله من المقلوب مثل قولك: جذب وجبذ وضب. فتبين لنا بهذا القول أنه يجوز القياس عليه، وتأمل كلامه يغنينا عن إطالة القول في معناه. وبالله التوفيق.