سطور في كتاب
من كتاب الأزمنة في اللغة العربية لفريد الدين آيدن
إنَّ الأزمنةَ ذاتُ أهمّيّةٍ بالغةٍ من حيث علاقة الفعل بها، وإنْ لم تكن من المسائل الأساسية للّغةِ . فإنَّ علماءَ العربيةِ وإنْ كانوا قد خاضوا مثارَ البحثِ والجدلِ في دقائقِ علومِ اللغةِ، إلاّ أنّهم لم يكترثوا لهذا الأمرِ أو لم ينتبهوا له بكلِّ ما يستحقُّهُ من اهتمامٍ. ولعلّ التقليدَ قد حجبهم عن اكتشافهِ، وقد يكون ذلك ناشئاً من أسبابٍ أُخرىَ.
... هذا، ولا نقولُ أنّ علماءَ العربيةِ لم يَفْطَنُوا إلى حقيقةِ الزمانِ من حيث علاقة الفعل به، إذ لا يجوز أن يكون قد التبس عليهم الفرقُ بين معاني الفعلِ الخاليِ عن القيودِ الزمانية، وبين الفعل المقيَّدِ بها مثل (طَلَبَ) و(سَبَقَ أنْ طَلَبَ) و (يَكُونُ قَدْ طَلَبَ) و(لَوْلاَهُ لَمَا طَلَبَ). فإنّ الفرقَ بين هذه التراكيبِ المختلفةِ واضحةٌ بيّنةٌ. ولابدّ أن يكونوا قد أدركوا هذا الفرقَ، إلاّ أنّهم لم يدخلوا في تفاصيلها ولم يجعلوا لكلٍّ من الصِّيَغِ الزمنية باباً خاصاً كما قد تَّم ذلك في كثيرٍ من اللّغات.
... ويغلبُ أنْ يكونَ هذا ناشِئاً من عدمِ علمِهم بِلُغاتٍ أجنبيّةٍ ، إذْ أنَّ كثيراً من المفاهيمِ والحاجاتِ وَالْمُقْتَضَيَاتِ لا يتبادَرُ إلى الذهنِ تلقائياً وبسهولةٍ إلاَّ بعد ظهورِ سببٍ يذكِّرُهُ أو ضرورةٍ تستدعيه، فهذه المنجزاتُ الحضاريةُ والتقنيةُ الضخمةُ التي نلمُِسُهَا في مجالاتٍ مختلفةٍ من حياتنا، تُبَرْهِنُ على هذه الحقيقةِ، إذْ ليس من القليلِ ما قد كشفه العلماءُ والخبراءُ وما عَثَرَ عليها الباحثون وأَبْدَعَهَا أهلُ الذّوقِ والفنِّ من صناعاتٍ وعلومٍ وآلاتٍ وأجهزةٍ بقرينةٍ بسيطةٍ في بداية الأمرِ، أو بالقياس بين شيئين اِسْتَحَسُّوا المكنوناتِ في أَحَدِهِمَا بفضلِ مَا فيِ الآخَرِ من أَمْثَالِهَا.
... هذا، لابدَّ وأنْ نؤكِّد بأنَّ للفعلِ علاقةٌ عُضْوِيَّةٌ بمفهومِ الزّمانِ، وما من فعلٍ إلاَّ ولِحُدوُثِهِ وقتٌ؛ والوقتُ قِسطٌ من الزمان.
... أما الزّمانُ فإنّه مفهوم معقَّد لم يتمكن العلماءُ من الوصولِ إلى حقيقته بعد. وهو ناشئ من دورانِ الكرة الأرضية حول محورها وعلى مدارٍ مُعَيَّنٍ مرتبطةً فيهما بالشمس، يعني أن الأرض تجري في ذات الوقت حول الشمس على مدارٍ مُعَيَّنٍ، إضافةً إلى جريانها حولَ محورِها فيتمخَّضُ عن الأول المواسمُ الأربعةُ، وعن الثاني اللّيلُ والنهارُ المتعاقبان.
... والوحدة القياسية للزمان هي الساعة ولا يسع المقام لحصر ما يدخل في هذا الباب من تفاصيلَ جانبيةٍ.
... أما الزّمانُ بالنسبة للفعل، فإنّه جديرٌ بالإهتمام؛ ذلك أن للفعل مراتبُ زمنيةٌ مختلفةٌ. ولهذا فإن علاقة الفعل بالزمان أشمل بكثير من القدر الذي حصرها علماء العربية في صِيَغٍ ثلاثٍ. وربما لم يكن غَرَضُهُمُ الوقوفَ على مفهوم الزّمانِ مباشرةً، وإنما أرادوا أن يتوصّلوا إلى تعريفٍ للفعل يميّزُهُ عن الإسمِ والحرفِ، فاقتصروا في هذه المحاولة على تقسيمه إلى الماضي والحال والإستقبال فحسب. وقد سمّىَ بعضُهُمْ الصِّيَغَ بالأزمنة الثلاثة. لذا، فإنّ المسئلةَ غيرُ واضحةٍ؛ حيث أن طالب اللّغةِ العربيةِ قد يكون متردِّداً حول هذه القضية، فيتسائل عما إذا كانت هذه التسميةُ تعبيراً عن الصِّيَغِ الفعليةِ أم المراتبِ الزمنيةِ؟
... نعم إنّ الفعلَ بوقوعه حقيقة، لا ينفكُّ عن الزّمانِ على الإطلاق، وهذا لا يدخل في نطاق دراستنا. إذ أنّ الفعلَ حاليٌّ عند وقوعه البتة، ويصبح ماضياً بعد وقوعه حقيقة. وهو مستقبل ما لم يقع. فهذه لا تتعدَّى عن تصورات منطقية بحتة.
... وإنما نحن بصدد الصّيغةِ الزّمنيّةِ الموضوعةِ للفعل. فالصيغة الزّمنيّةُ لها دلالات مقرونة بأحد الأزمنة المطلقة؛ وهي الماضي والحال والإستقبال؛ كبناء الماضي على الفتح، واستهلال المضارع بأحد حروف المضارعة، ودخول السين وسوف على المستقبل. فإذا كانت هذه القرائن تدلُّ على المراتب الزمنية للفعل، فإنّ علاقة الفعل بالزمان أكثر شمولا من هذا التقسيم. إذ لا يخفى أنَّ للصّيِغةِ الواحدةِ من الفعل دلالاتٌ متعلقةٌ بأزمنةٍ مختلفةٍ على حسب ما يصطحب الفعل من كلمات أو تركيب. مثلاً فإن (اِنْتَهَى)، وهو فعلٌ ماضٍ، لكن قد يفيد في كلِّ مثالٍ من الأمثلة الآتيةِ الخمسةِ معنى لمراتب الزمان الغابر، يختلف ذلك المعنى في كلِّ واحدٍ منها عن الدلالاتِ الزمنيةِ في بقيةِ الأمثلةِ بسببِ الأدواتِ التي لَحِقَتْ بها وهي:
... 1ـ انتهى
... 2ـ قد انتهى
... 3ـ إذ انتهى
... 4ـ كان قد انتهى
... 5ـ لولاه لما انتهى
إنّ المرتبةَ الزمنيةَ التي يدلُّ عليها فعلُ (انتهَى) في كلِّ مثالٍ من الأمثلةِ المذكورةِ، تختلفُ عن بقيَّهِ المراتبِ الزّمنيةِ في الأمثلة الأخرى ، مع أن فعل (انتهى) قد وَرَدَ في كلٍّ من هذهِ الأمثلةِ على السواء. وأغربُ من هذا فإنَّ فعلَ (انتهى) ـ على سبيل المثال ـ في جملة : "إذا انتهى الأجل، إنتهى الوجل" يدلّ على مستقبلٍ مُعَلَّقٍ مع أنّه فعلٌ ماضٍ.
... أما إذا قيل: إنما لم يَدْخُلْ علماءُ العربيةِ من الصرفيّين والنحويّين والأدباءِ في هذه التفاصيل تجنُّباً من التّطويل في المسائل، وتسهيلاً لطلبةِ العلمِ فإنّ هذا الإعتذار غير مُقْنِعٍ. ويغلب أنّهم قد ركّزوا جُلَّ اهتمامهم على المسائل الإشتقاقيةِ والإعرابيةِ والبلاغيةِ فحسب، وحرصوا في ذلك على تحقيق ثلاثةِ أهدافٍ دون غيرها وهي:
... 1ـ النطقُ السليمُ الخالصُ من اللّحنِ،
... 2ـ القراءةُ السليمةُ الخالصةُ من الغلطِ،
... 3ـ الكتابةُ الصحيحةُ الخالصةُ من الخطأ الإملائيِّ والإنشائيِّ.
... إذن فتكون مسألةُ علاقةِ الفعلِ بالزمان أمراً جانبياً بالنسبة لعلماءِ العربيةِ لأنّهم حصروا مهمَّتَهم في الأبوابِ المذكورةِ، ولأنّه ليست للزّمانِ صلةٌ مباشِرَةٌ بهذهِ الأبوابِ الثلاثةِ لذلك لم يهتمُّوا بها، وهذا أحسن الظنِّ بهم.
... وحيث أن شبابَ الأمةِ الإسلاميةِ من غيرِ العربِ قد أقبلوا على اللّغةِ العريةِ إقبالاً متزايدًا في هذه المرحلةِ الأخيرةِ وازدادتْ رغبتُهُمْ لها بعد انتشار الصحوةِ الإسلاميةِ منذ بضع سنين بسبب تطوراتٍ طارئةٍ، فقد دعت الضرورةُ إلى دراسة هذه المسألة. إذ أنّ قضيةَ علاقةِ الفعلِ بالزّمان تحتلُّ مكانًا هامّاً في تصريف اللّغاتِ غير العربيةِ. وكثيرٌ من الطلابِ يعانون أزمةً شديدةً في ترجمةِ الصِّيَغِ الزمنيةِ خاصَّةً إلى اللغةِ العربيةِ ولا يجدون مصدراً ليستعينوا به على تذليل هذه العقبة التي تعترضهم من حينٍ إلى آخر. لذا رأيتُ من بابِ المساعدةِ لهم أن أتناولَ هذه المسألةَ فألخِّصَها بأسلوبٍ سهلٍ مُبَسَّطٍ. فأقول مستعينا بالله تعالى:
... إنَّ التعبيرَ عن علاقةِ الفعلِ بالزّمان لأمرٌ هامٌّ لأنَّ الفعلَ يكثرُ استعمالُهُ في الحديث. وهو أحدُ العناصرِ الثلاثةِ التي يستهلُّ بها غالبُ كُتُبِ النَّحْوِ وتتشعَّبُ منها بقيّةُ أبوابِ القواعدِ، ولأنَّ الفعلَ مقرونٌ بزمانٍ مطلقا،ً بخلافِ الإسمِ والحرفِ، وأنّهُ تزدادُ أهميَّةُ علاقةِ الفعلِ بالزّمان خاصَّةً في ترجمة العقودِ والمواصفاتِ والتقاريرِ وأمثالِهَا من الوثائق ذاتِ الأثرِ في العلاقاتِ البشريةِ.
... ثم إنّ للفعلِ ثلاثةُ معانٍ:
... الأول منها طبيعيٌّ. وهو مفاد الفعل المجرد .كـ (غَفَرَ، ويَنْطِقُ، وذَهَبْنَا.)
... الثاني منها عارضيٌّ. وهو ما يفيد معنى عند الزّيادةِ على حروفه الأصلية. مثل (اِسْتغْفَرَ، ويُقَاتِلُ، وتَعَجَّبْنَا.)
... الثالث منها ضِمْنِيٌّ. وهو الذي يظهرُ معناهُ من خلالِ علاقتِهِ بالزّمان.
... أما الزّمان، فقد يكون قريباً، أو بعيداً، أو مختلفاً جداً من حيث القرب أو البعد بالنسبة للفاعل أو للرّاوي. إذن فإنَّ علاقةَ الفعلِ بالزّمان في هذ الإطار تكشف لنا تَعَدُّدَ المراتب الزّمنيةِ بأنَّهَا أكثرُ من ثلاثةٍ. وقد يختلف هذا التّعَدُّدُ من لغةٍ إلى أخرى حسب طبيعتِهَا وانسجامِهَا مع اللّغاتِ المتطوّرةِ. فإنّ اللّغاتِ البسيطةَ قد لا تشتمل على مصطلحاتٍ علميةٍ ولا تدعو حاجةُ الناطقينَ بها إلى استعمالِ صِيَغٍ للمراتب الزّمنيَّةِ.