أقسام الشعر
من كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة الدينوري
قال أبو محمد: تدبرت الشعر فوجدته أربعة أضرب.
ضربٌ منه حسن لفظه وجاد معناه، كقول القائل في بعض بني أمية:
في كَفِّهِ خَيْزُرَانٌ رِيحُهُ عَبقٌ ... مِنْ كَفِّ أَرْوَعَ في عرْنِينِهِ شممُ
يغْضِى حَيَاءً ويُغْضَى مِنْ مَهَابَتِةِ ... فَما يُكلَّمُ إلَّا حِينَ يَبْتَسِمُ
لم يقل في الهيبة شيءٌ أحسن منه.
وكقول أوس بن حجر:
أيَّتُهَا النَّفْسُ أَجْمِلى جَزَعَا ... إنَّ الَّذِي تَحْذرِينَ قَدْ وَقَعَا
لم يبتدى أحدٌ مرثيةٌ بأحسن من هذا.
وكقول أبي ذؤيبٍ:
والَّنْفُس رَاغِبَةٌ إذَا رَغَّبْتَهَا ... وإذَا تُرَد إلَى قَلِيلٍ تَقْنَعُ
حدثني الرياشي عن الأصمعي، قال: هذا أبدع بيت قاله العرب.
وكقول حميد بن ثورٍ:
أَرَى بَصَرِي قَدْ رَابَني بَعْدَ صِحَّةٍ ... وحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَصِحَّ وتَسْلَمَا
ولم يقل في الكبر شيءٌ أحسن منه.
وكقول النابغة:
كِلِينِي لِهَمٍّ يَا أُمَيْمَةَ نَاصِبِ ... ولَيْلٍ أُقَاسِيهِ بَطِىءِ الكَوَاكِب
لم يبتدى أحدٌ من المتقدمين بأحسن منه ولا أغرب.
ومثل هذا في الشعر كثيرٌ، ليس للإطالة به في هذا الموضع وجهٌ، وستراه عنه ذكرنا أخبار الشعراء.
وضربٌ منه حسن لفظه وحلا، فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى، كقول القائل:
ولَمَّا قَضَيْنَا مِنْ مِنًى كُلَّ حَاجةٍ ... ومَسَّحَ بِالأَرْكانِ مَنْ هُوَ مَاسِحُ
وشُدَّتٌ على حُدْبِ المَهَارِى رحَالُنَا ... ولا يَنْظُرُ الغَادِي الذي هُوَ رَائحُ
أَخَذْنَا بِأَطْرافِ الأَحَادِيثِ بَيْنَنَاوسَالَتْ بِأَعْنَاقِ المَطِىِّ الأَبَاطِحُ
هذه الألفاظ كما ترى أحسن شيءٍ مخارج ومطالع ومقاطع، وإن نظرت إلى ما تحتها من المعنى وجدته: ولما قطعنا أيام منى، واستلمنا الأركان، وعالينا إبلنا الأنضاء، ومضى الناس لا ينتظر الغادي الرائح، ابتدأنا في الحديث وسارت المطي في الأبطح.
وهذا الصنف في الشعر كثيرٌ.
ونحوه قول المعلوط:
إِنَّ الذين غَدَوْا بُلِّبكَ غادَرُوا ... وَشَلاً بِعَيْنِكَ مَا يَزَالُ مَعِينَا
غيَّضْنَ مِنْ عَبَرَاتِهِنَّ وقُلْنَ لي ... مَاذَا لَقِيتَ مِنَ الْهَوَى ولَقِينَا
ونحوه قول جريرٍ:
يا أُخْتَ نَاجِيَةَ السَّلَامُ عَلَيْكُمُ ... قَبْلَ الرَّحِيلِ وقَبْلَ لَوْمِ العُذَّل
لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّ آخِرَ عَهْدكُمْ ... يَوْمُ الرَّحِيل فَعَلْتُ ما لم أَفْعَل
وقوله:
بَانَ الخلِيطُ ولوْ طُوِّعْتُ ما بَانَا ... وقَطَعُوا مِنْ حِبَالِ الوَصْل أَقْرَانَا
إِنَّ العُيُونَ التي في طَرْفِهَا مَرَضٌ ... قَتَّلْنَنَا ثُمَّ لم يُحيينَ قَتْلاَنَا
يَصْرَعْنَ ذَا اللُّبِّ حتى لَا حَرَاكَ بِهِ ... وهُنَّ أَضْعَفُ خَلْق اللهِ أَرْكانا
وضربٌ منه جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه، كقول لبيد بن ربيعة:
ما عَاتَبَ المَرْءَ الْكَريمَ كَنَفْسِهِ ... والمَرْءُ يُصْلِحُهُ الجَلِيسُ الصَّالِحُ
هذا وإن كان جيد المعنى والسبك فإنه قليل الماء والرونق.
وكقول النابغة للنعمان:
خَطَاطِيفُ حُجْنٌ في حِبَالٍ مَتِينَةٍ ... تَمُدُّ بِهَا أَيْدٍ إلَيْكَ نَوَازِعُ
قال أبو محمد: رأيت علماءنا يستجدون معناه، ولست أرى ألفاظه جياداً ولا مبينةً لمعناه، لأنه أراد: أنت في قدرتك على كخطاطيف عقفٍ يمد بها، وأنا كدلوٍ تمد بتلك الخطاطيف، وعلى أني أيضاً لست أرى المعنى جيداً.
وكقول الفرزدق:
والشَّيْبُ يَنْهَضُ في الشَّبَاب كأَنَّه ... لَيْلٌ يَصِيحُ بجَانِبَيْهِ نَهَارُ
وضربٌ منه تأخر معناه وتأخر لفظه، كقول الأعشى في امرأةٍ:
وفُوها.....كَأَقَاحِيَّ ... غَذَاهُ دَائمُ الهَطْلِ
كما شِيبَ برَاحٍ بَا ... رِد مِنْ عَسَل النَّحْل
وكقول:
إنَّ مَحَلاًّ وإِنَّ مُرْتَحَلا ... وإِنَّ في السَّفْرِ ما مَضَى مَهَلا
اسْتَأْثَرَ اللهُ بِالوَفَاءِ وَبِاْل ... حَمْدِ وَوَلَّى المَلَامَةَ الرَّجُلا
والأَرْضُ حَمَّالَةٌ لمَا حَمَّلَ الَّل ... هُ وَمَا إِنْ تَرُدُّ ما فَعَلَا
يَوْماً تَرَاهَا كَشِبْهِ أَرْدِيَةِ الْ ... عَصْب ويَوْماً أَدِيمُهَا نَغِلَا
وهذا الشعر منحولٌ، ولا أعلم فيه شيئاً يستحسن إلا قوله:
يَا خَيْرَ مَنْ يَرْكَبُ الْمَطِىَّ ولَا ... يَشْرَبُ كَأْساً بِكَفِّ مَنْ بَخِلَا
يريد أن كل شاربٍ يشرب بكفه، وهذا ليس ببخيل فيشرب بكف من بخل، وهو معنًى لطيف.
وكقول الخليل بن أحمد العروضي:
إِنَّ الخَليطَ تَصَدَّعْ ... فَطِرْ بِدَائِكَ أَوْقَعْ
لَوْلَا جَوَارٍ حِسَانٌ ... حُورُ الْمَدَامِع أَرْبَعْ
أُمُّ البَنِينَ وأَسْمَا ... ءٌ والرَّبَابُ وبَوْزَعْ
لَقُلْتُ لِلرَّاحِلِ ارْحَلْ ... إِذَا بدا لَكَ أَوْ دَعْ
وهذا الشعر بين التكلف ردىء الصنعة. وكذلك أشعار العلماء، ليس فيها شيءٌ جاء عن إسماحٍ وسهولة، كشعر الأصمعي، وشعر ابن المقفع وشعر الخليل، خلا خلفٍ الأحمر، فإنه كان أجودهم طبعاً وأكثرهم شعراً. ولو لم يكن في هذا الشعر إلا أم البنين وبوزع لكفاه! فقد كان جررٌ أنشد بعض خلفاء بني أمية قصيدته التي أولها:
بانَ الخَلِيطُ بِرَامَتَيْنِ فَوَدَّعُوا ... أَوَ كُلَّمَا جَدُّوا لِبَيْنٍ تَجْزَعُ
كَيْفَ العَزَاءُ ولم أَجِدْ مُذْ بِنْتُمُ ... قَلْباً يَقِرُّ ولا شَرَاباً يَنْقَعُ
وهو يتحفز ويزحف من حسن الشعر، حتى إذا بلغ إلى قوله:
وتَقُولُ بَوْزَعُ قَدْ دَبَبْتَ عَلَى العَصَاهَلاَّ هَزِئْتِ بِغَيْرِنَا يَا بَوْزَعُ
قال له: أفسدت شعرك بهذا الاسم وفتر.
قال أبو محمد: وقد يقدح في الحسن قبح اسمه، كما ينفع القبيح حسن اسمه، ويزيد في مهانة الرجل فظاعة اسمه، وترد عدالة الرجل بكنيته ولقبه. ولذلك قيل: اشفعوا بالكنى، فإنها شبهةٌ.
وتقدم رجلان إلى شريحٍ، فقال أحدهما: ادع أبا الكويفر ليشهد، فتقدم شيخٌ فرده شريحٌ ولم يسأل عنه، وقال: لو كنت عدلاً لم ترض بها، ورد آخر يلقب أبا الذبان ولم يسأل عنه.
وسأل عمر رجلاً أراد أن يستعين به على أمرٍ عن اسمه واسم أبيه، فقال: ظالم بن سراق، فقال: تظلم أنت ويسرق أبوك ولم يستعن به.
وسمع عمر بن عبد العزيز رجلاً يدعو رجلاً: يأبا العمرين، فقال: لو كان له عقلٌ كفاه أحدهما! ومن هذا الضرب قول الأعشى:
وقَدْ غَدَوْتُ إلى الحَانُوتِ يتْبَعُني ... شَاوٍ مِشَلٌّ شَلُولٌ شُلْشَلٌ شَوِل
وهذه الألفاظ الأربعة في معنىً واحد، وكان قد يستغنى بأحدها عن جميعها، وماذا يزيد هذا البيت أن كان للأعشى أو ينقص؟ وقول أبي الأسد، وهو من المتأخرين الأخفياء:
ولَائِمَة لَامَتْكَ يَا فَيْضُ في النَّدَىفَقُلْتَ لَها لَنْ يَقْدَحَ اللَّوْمُ في البَحْرِ
أَرَادَتْ لِتَثْنِي الفَيْضَ في كُلِّ بَلْدَةٍمَوَاقِعُ ماءِ المُزْنِ في البَلَدِ القَفْر
لتثنى الغيض عن عادة الندى ... ومن ذا الذي يثني السحاب عن القطر
مَوَاقِعُ جَوُدِ الفَيْضِ في كُلِّ بَلْدَةٍمَوَاقِعُ ماءِ المُزْنِ في البَلَدِ القَفْر
كَأَنَّ وُفُودَ الفَيْضِ حِينَ تَحَمَّلُواإلى الْفَيِض وَافَوْا عْندَةُ لَيْلَةَ القَدْرِ
وهو القائل:
لَيْتَكَ آذَنْتَنِي بِوَاحدَاةٍ ... تَكُونُ لي مِنْكَ سَائِرَ الأَبَدِ
تَحْلِفُ أَلاَّ تَبَرَني أَبَداً ... فَإنَّ فِيهَا بَرْداً على كَبدِي
إِنْ كانَ رِزْقي إِلَيْكَ فَارْمِ بِهِ ... في نَاظِرَيْ حَيَّةٍ على رَصَدِ
ومن هذا الضرب أيضاً قول المرقش:
هَلْ بِالدِّيَارِ أَنْ تُجِيبَ صَمَمْ ... لَوْ أَنَّ حَيًّا نَاطِقاً كَلمْ
يَأْبي الشَّبَابُ الأَقْوَرِينَ ولاَ ... تَغْبِطْ أَخَاكَ أَنْ يُقَالَ حَكَمْ
والعجب عندي من الأصمعي، إذ أدخله في متخيره، وهو شعرٌ ليس بصحيح الوزن ولا حسن الروى، ولا متخير اللفظ، ولا لطيف المعنى ولا أعلم فيه شيئاً يستحسنُ إلا قوله:
النَّشرُ مِسْك والوُجُوهُ دنَا ... نِيرُ وأَطْرَاف الأَكُفِّ عَنَمْ
ويستجاد منه قوله:
لَيْسَ على طُولِ الحيَاةِ نَدَمْ ... ومنْ وَرَاءِ المَرْء مَا يُعْلَمْ
وكان الناس يستجيدون للأعشى قوله:
وكَأْسٍ شَرِبْتُ على لَذةٍ ... وأُخْرَى تَدَاوَيْتُ منْهَا بهَا
حتى قال أبو نواس:
دَعْ عَنْكَ لَوْمي فَإنَّ اللَّوْمَ إِغْرَاءُ ... وَدَاوِني بالتي كانَتْ هِي الدَّاءُ
فسلخه وزاد فيه معنًى آخر، اجتمع له به الحسنُ في صدره وعجزه، فللأعشى فضل السبق إليه، ولأبي نواسٍ فضل الزيادة فيه.
وقال الرشيد للمفضل الضبي: اذكر لي بيتاً جيد المعنى يحتاج إلى مقارعة الفكر في استخراج خبيئه ثم دعني وإياه، فقال له المفضل: أتعرف بيتاً أوله أعرابي في شملته، هاب من نومته، كأنما صدر عن ركبٍ جرى في أجفانهم الوسن فركد، يستفزهم بعنجهية البدو، وتعجرف الشدو، وآخره مدني رقيق، قد غذى بماء العقيق؟ قال: لا أعرفه، قال: هو بيت جميل بن معمر:
أَلاَ أَيُّهَا الرَّكْبُ النيَامُ أَلاَ هُبُّوا
ثم أدركته رقة المشوق، فقال:
أسائلكم: هل يقتل الرجل الحب؟
قال: صدقت، فهل تعرف أنت الآن بيتاً أوله أكثم بن صيفي في إصالة الرأي ونبل العظة، وآخره إبقراط في معرفته بالداء والدواء؟ قال المفضل: قد هولت علي، فليت شعري بأي مهرٍ تفترع عروس هذا الخدر؟ قال: بإصغائك وإنصافك، وهو قول الحسن بن هاني:
دَعْ عَنْكَ لَوْمي فَإنَّ اللَّوْمَ إِغْرَاءُ ... وَدَاوِني بالتي كانَتْ هِي الدَّاءُ
قال أبو محمد: وسمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار، فبكى وشكا، وخاطب الربع، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين عنها، إذ كان نازلة العمد في الحلول والظغن على خلاف ما عليه نازلة المدر، لانتقالهم عن ماءٍ إلى ماءٍ، وانتجاعهم الكلأ، وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان. ثم وصل ذلك بالنسيب، فشكا شدة الوجد وألم الفراق وفرط الصبابة، والشوق، ليميل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه، وليستدعي به إصغاء الأسماع إليه، لأن التشبيب قريبٌ من النفوس، لأئطٌ بالقلوب، لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فليس يكاد أحدٌ يخلو من أن يكون متعلقاً منه بسببٍ، وضارباً فيه بسهمٍ، حلالٍ أو حرامٍ، فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه، والاستماع له، عقب بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره، وشكا النصب والسهر وسرى الليل وحل الهجير، وإنضاء الراحلة والبعير، فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء، وذمامة التأميل وقرر عنده ما ناله من المكاره في المسير، بدأ في المديح، فبعثه على المكأفاة، وهزه للسماح، وفضله على الأشباه، وصغر في قدره الجزيل.
فالشاعر المجيد من سلك هذه الأسالب، وعدل بين هذه الأقسام، فلم يجعل واحداً منها أغلب على الشعر، ولم يطل فيمل السامعين، ولم يقطع وبالنفوس ظمآءٌ إلى المزيد.
فقد كان بعض الرجاز أتى نصر بن سيارٍ وإلى خراسان لبنى أمية، فمدحه بقصيدةٍ، تشبيبها مائة بيتٍ، ومديحها عشرة أبياتٍ، فقال نصرٌ: والله ما بقيت كلمةٌ عذبةً ولا معنى لطيفاً إلا وقد شغلته عن مديحي بتشبيبك، فإن أردت مديحي فاقتصد في التسيب، فأتاه فأنشده،
هَلْ تَعْرِفُ الدَّارَ لأُمِّ الغَمْرِ ... دَعْ ذَا وحَبّرْ مدْحَةً في نَصْرِ
فقال نصر: لا ذلك ولا هذا ولكن بين الأمرين.
وقيل لعقيل بن علفة: ما لك لا تطيل الهجاء؟ فقال: يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق.
وقيل لأبي المهوش الأسدي: لم لا تطيل الهجاء؟ فقال: لم أجد المثل السائر إلا بيتاً واحداً.
وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين في هذه الأقسام، فيقف على منزلٍ عامر، أو يبكى عند مشيد البنيان، لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر، والرسم العافي. أو يرحل على حمارٍ أو بغلٍ ويصفهما، لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يرد على المياه العذاب الجواري، لأن المتقدمين وردوا على الأواجن الطوامي. أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والآس والورد، لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح والحنوة والعرارة.
قال خلفٌ الأحمر: قال لي شيخٌ من أهل الكوفة، أما عجبت من الشاعر قال:
أَنْبَتَ قَيْصُوماً وجَثْجَاثَا
فاحتمل له، وقلت أنا:
أَنْبَتَ إِجَّاصاً وتُفَّاحَا
فلم يحتمل لي؟ وليس له أن يقيس على اشتقاقهم، فيطلق ما لم يطلقوا.
قال الخليل بن أحمد: أنشدني رجلٌ:
تَرَافعَ العِزٌّ بِنَا فارْفَنْعَعا
فقلت. ليس هذا شيئاً، فقال: كيف جاز للعجاج أن يقول:
تَقاعَسَ العزُّ بِنَا فَاقْعَنْسَسا
ولا يجوز لي؟! ومن الشعراء المتكلف والمطبوع: فالمتكلف هو الذي قوم شعره بالثقاف، ونقحه بطول التفتيش، وأعاد فيه النظر بعد النظر، كزهيرٍ والحطيئة، وكان الأصمعي يقول: زهيرٌ والحطيئة وأشباههما من الشعراء عبيد الشعر، لأنهم نقحوه ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين، وكان الحطيئة يقول: خير الشعر الحولي المنقح الممحكك. وكان زهيرٌ يسمى كبر قصائده الحوليات.
وقال سويد بن كراعٍ، يذكر تنقيحه شعره:
أَبِيتُ بِأَبْوابِ القَوَافي كَأَنَّمَا ... أُصَادي بها سِرْباً مِنَ الوَحْش نُزَّعَا
أُكَالِئُهَا حَتَّى أعَرِّسَ بَعْدَ ما ... يكُونُ سُحَيْراً أَوْ بُعْيَدُ فأَهْجَعا
إِذَا خفْتُ أَنْ تُرْوَى علَّى رَدَتْتُهَاوَرَاءَ التَّرَاقيِ خَشْيَةً أَنْ تَطَلَّعا
وَجَشَّمَني خَوفُ ابْنِ عَفَّانَ رَدَّهَا ... فَثَقَّفْتُهَا حَوْلاً جَرِيداً ومَرْبَعا
وقَدْ كان في نَفْسِي عليْها زِيَادَةٌ ... فَلَمْ أَرَ إلاَّ أَنْ أُطِيعَ وأَسْمَعا
وقال عدي بن الرقاع:
وقَصيدَةٍ قَدْ بِت أَجْمَعُ بَيْنَها ... حَتَّى أُقَوِّمَ مَيْلَها وسِنَادَها
نَظَرَ المُثَقِّفِ في كُعُوبِ قَنَاتِهِ ... حَتَّى يُقِيمَ ثِقَافُهُ مُنَآدَها
وللشعر دواعٍ تحث البطىء وتبعث المتكلف، منها الطمع، ومنها الشوق، ومنها الشراب، ومنها الطرب، ومنها الغضب.
وقيل للحطيئة، أي الناس أشعر؟ فأخرج لساناً دقيقاً كأنه لسان حية، فقال: هذا إذا طمع.
وقال أحمد بن يوسف الكاتب لأبي يعقوب الخريمي: مدائحك لمحمد بن منصور بن زياد، يعني كاتب البرامكة، أشعر من مراثيك فيه وأجود؟ فقال: كنا يومئذ نعمل على الرجاء، ونحن اليوم نعمل على الوفاء، وبينهما بونٌ بعيد.
وهذه عندي قصة الكميت في مدحه بني أمية وآل أبي طالبٍ، فإنه كان يتشيع وينحرف عن بني أمية بالرأي والهوى، وشعره في بني أمية أجود منه في الطالبيين، ولا أرى علة ذلك إلا قوة أسباب الطمع وإيثار النفس لعاجل الدنيا على آجل الآجرة.
وقيل لكثيرٍ: يأبا صخرٍ كيف تصنع. إذا عسر عليك قول الشعر؟ قال: أطوف في الرباع المخلية والرياض المعشبة، فيسهل علي أرصنه، ويسرع إلى أحسنه.
ويقال أيضاً إنه لم يستدع شارد الشعر بمثل الماء الجاري والشرف العالي والمكان الخضر الخالي.
وقال الأحوص:
وأَشْرَفْتُ في نَشْزٍ مِنَ الأَرْضِ يَافِعٍوقَدْ تَشْعَفُ الأَيْفَاعُ مَنْ كانَ مُقْصَدا
وإذا شعفته الأيفاع مرته واستدرته.
وقال عبد الملك بن مروان لأرطاة بن سهية: هل تقول الآن شعراً؟ فقال: كيف أقول أنا للشنفري ما أشرف ولا أطرب ولا أغضب، وإنما يكون الشعر بواحدة من هذه.
وقيل للشنفري حين أسر: أنشد، فقال: الإنشاد على حين المسرة، ثم قال:
فَلاَ تَدْفنُوني إِنَّ دَفني مُحَرَّمٌ ... عليْكُمْ ولكِنْ خَامِرِي أَمَّ عَامِر
إِذَا حَمَلُوا رأسِي وفي الرأسِ أَكثَرِى ... وغودِرَ عِنْدَ المُلْتَقَى ثَمَّ سَائِرى
هُنالِكَ لاَ أَرْجُو حَيَاةً تَسُرُّني ... سَميَر الليالي مُبْسَلاً بالجَرَائرِ
وللشعر تاراتٌ يبعد فيها قريبه، ويستصعب فيها ريضه. وكذلك الكلام المنثور في الرسائل والمقامات والجوابات، فقد يتعذر على الكاتب الأديب وعلى البليغ الخطيب، ولا يعرف لذلك سببٌ، إلا أن يكون من عارض يعترض على الغريزة من سوء غذاءٍ أو خاطر غم.
وكان الفرزدق يقول: أنا أشعر تميمٍ عند تميمٍ، وربما أتت على ساعةٌ ونزع ضرس أسهل على من قول بيت.
وللشعر أوقاتٌ يسرع فيها أتيه، ويسمح فيها أبيه. منها أول الليل قبل تغشى الكرى، ومنها صدر النهار قبل الغداء، ومنها يوم شرب الدواء، ومنها الخلوة في الحبس والمسير.
ولهذه العلل تختلف أشعار الشاعر ورسائل الكتاب.
وقالوا في شعر النابغة الجعدي: خمارٌ بواف ومطرفٌ بآلاف.
ولا أرى غير الجعدي في هذا الحكم إلا كالجعدي، ولا أحسب أحداً من أهل التمييز والنظر، نظر بعين العدل وترك طريف التقليد، يستطيع أن يقدم أحداً من المتقدمين المكثرين على أحد من إلا بأن يرى الجيد في شعره أكثر من الجيد في شعر غيره.
ولله در القائل: أشعر الناس من أنت في شعره حتى تفرغ منه.
وقال العتبي: أنشد مروان بن أبي حفصة لزهير فقال: زهير أشعر الناس، ثم أنشد للأعشى فقال: بل هذا أشعر الناس، ثم أنشد لامرىء القيس فكأنما سمع به غناءً على شراب، فقال: امرؤ القيس والله أشعر الناس.
وكل علمٍ محتاجٌ إلى السماع. وأحوجه إلى ذلك علم الدين، ثم الشعر، لما فيه من الألفاظ الغريبة، واللغات المختلفة، والكلام الوحشي، وأسماء الشجر والنبات والمواضع والمياه. فإنك لا تفصل في شعر الهذليين إذا أنت لم تسمعه بين شابة وساية وهما موضعان ولا تثق بمعرفتك في حزم نبايع، وعروان الكراث، وشسى عبقر، وأسد حلية، وأسد ترجٍ، ودفاقٍ، وتضارع، وأشباه هذا لأنه لا يلحق بالذكاء والفطنة، كما يلحق مشتق الغريب.
وقرىء يوماً على الأصمعي في شعر أبي ذؤيب:
بِأَسْفَل ذاتِ الدَّيْرِ أُفْرِدَ جَحْشُهَا
فقال أعرابي حضر المجلس للقارىء: ضل ضلالك أيها القارىء! إنما هي ذات الدبر وهي ثنيةٌ عندنا، فأخذ الأصمعي بذلك فيما بعد.
ومن ذا من الناس يأخذ من دفتر شعر المعذل بن عبد الله في وصف الفرس: