تقرر في البحث النحوي أن (كاد – وكرب) من أفعال الشروع يشترط في أخبارها التجرد من ((أن)) ؛ لأن كلا الفعلين المذكورين يدلان على شدة مقاربة الفعل ومداومته ، وذلك يقرب من الشروع في الفعل والأخذ فيه ، فلم يناسب خبرهما أن يقترن بأن غالبًا.
ويرى بعض الباحثين أن هذا الأسلوب هو الشائع في الأساليب العالية التي يحسن الاقتصار على محاكاتها.
واشتراط النحاة مجيء الخبر مجردًا من ((أن)) بناءً على الأفصح الأعرف أو المطرد الشائع من كلام العرب ؛ ولذا قال ابن مالك :
وكونه بدون ((أن)) بعد عسى....نزْرٌ ، وكاد الأمر فيه عُكسا
وقال في ((شرح التسهيل)):
((والشائع في خبر كاد وروده مضارعًا غير مقرون بأن..، ووروده مقرونًا بأن قليل)).
أما مجيؤه مقرونًا (بأنْ) فقد ورد في نصوص كثيرة ؛ فمن شواهد مجيء الخبر مقترنًا بأن في الحديث الشريف: قوله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يوم الخندق: ((ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب)) .
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : ((كاد الفقر أن يكون كفرًا)).
وحديث البخاري : ((كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم)).
ومنه قول الصحابي الجليل جبير بن مطعم عندما سمع النبي يقرأ سورة الطور فبلغ قوله تعالى: ((أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)) [الطور:35]: ((كاد قلبي أن يطير)).
ومنه ما جاء في صحيح الحديث: ((كان الخَيِّران أن يهلكا أبو بكر وعمر)).
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :((كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها)).
ومن شواهد اقتران أخبارها بأن في الشعر :
قول رؤبة: [من الرجز]
رَبْعٌ عَفَا مِنْ بَعْدِ مَا قدِ انْمَحَى... قَـدْ كَادَ مِـنْ طُـولِ البـِلَى أنْ يَمْصَحـــا
وقول آخر: [من الطويل]
أبيتـم قبـولَ السَلم منَّا فكدتم.... لدى الحرب أن تُغْنوا السيوف عن السَّل
وقول آخر: [من الطويل]
* وقد كَرُبتْ أعناقُها أنْ تَقطَّعا *
وقول الراجز:
قد بُرْتَ أو كَرَبْتَ أن تبـورا .....لمــــا رأيــت بَيْهسًــــا متْبُـــــــورا
وقول آخر: [من الخفيف]
كادتِ النفسُ أَنْ تفيضَ عليه.....إذْ غدا حَشْوَ رَيْطةٍ وبُرود
وقالوا في علة اقتران خبر (كاد – وكرب) بـ ((أن)) إنه لما أدخلوا ((أن)) في خبر كاد فكأنه بَعُدَ عن الحال حتى أشبه عسى فحُمل عليها في اقتران خبرها بـ ((أن)) كما تحذف من خبر عسى حملاً على كاد.
وبعضهم أرجع اقتران خبرهما– أي (كاد ، وكرب)- بـ ((أن)) إلى خصوصية الشعر وضرورته.
قال المبرد في ((المقتضب)):
((إلا أن يضطر شاعر ،فإن اضطر جاز له فيهما – أي في كرب وكاد – ما جاز في (لعل) ، قال الشاعر :
* قد كاد من طول البلى أن يمصحا *
فالمبرد إذًا يُرجع هذا الاقتران إلى الضرورة ، وتبعه بعض الأندلسيين كابن عصفور، ومثلهم الأعلم الشنتمري حيث قال :
((قد كاد من طول البكى أن يمصحا))
الشاهد فيه دخول ((أن)) على (كاد) ضرورة، والمستعمل في الكلام إسقاطها، ودخلت عليها تشبيهًا بعسى، كما سقطت من (عسى) تشبيهًا بها لاشتراكهما في معنى المقاربة)) .
والحق أنني في عجب إذ إن مجيء خبر كاد وكرب مقرونًا بأن قد ورد في الشعر الفصيح كثيرًا وفي بعضه مقنع للحكم على فصاحة هذا الاستعمال ،
كما أن هذا الاقتران لم يرد في الشعر باطراد فحسب، بل ورد في الحديث الشريف والنثر أيضًا ، فالحكم على اقتران خبر (كاد – وكرب) (بأن) واختصاصه بضرورة الشعر كما ذهب المبرد والأندلسيون والشَنتمري غير سديد ، ويكون حكم جماعة النحاة عليه بالقلة إلغاءً لهذا التراث الضخم الوارد بكثرته واطراده .
وقد رد النحاة على سيبويه زعمه أن خبر كرب لا يقترن بأن حيث لم يذكر سيبويه خبرها إلا مجردًا من (أن) ، وهو مردود بالسماع.
فإذا ورد الاستعمال بشيء – لاسيما إن كان كثيرًا – أُخذ به وترك القياس ؛ لأن السماع يبطل القياس ، ولابن جني مبحث فيما يَرِدُ عن العربي مخالفًا لما عليه الجمهور في كتابه ((الخصائص)) ، خلص فيه أن الأولى في ذلك أن يحسن الظن به ولا يحمل على فساده ، ولاسيما إن كان ما أورده العربي مما يقبله القياس ، إلا أنه لم يرد به استعمال إلا من جهة ذلك الإنسان .
أمَّا ورود خبر (كاد – وكرب) مقترنًا بأن في ظِلِّ هذه المسموعات الفصيحة شعرًا ونثرًا - في نظر البحث – فإنه يخرجه من دائرة القلة أو الضرورة كما ذهب جماعة النحاة إلى دائرة الاطراد والشيوع والفصاحة .
ومقام الدلالة قد يحل الإشكال للطلاب ويكشف عن القضية النقاب بعض الشيء ، وكلامنا في هذا المقام يبدأ من ركن ركيز في باب أفعال المقاربة ، ألا وهو دلالة هذه الأفعال على شدة المقاربة تحققًا أو حكمًا .
ومعروف أن ما يدل على المقاربة من أفعال هذا الباب هو (كاد – وكرب – وأوشك)
فأفعال المقاربة إن دلت على شدة المقاربة بحيث تقترب من الشروع ولكنها لم تُنشئ فيه أي لم تأخذ في الشروع ، فإن هذا يناسبه أن يؤتى بشيء يدل على تراخيها عن الشروع في الفعل، وهذا الشيء نسميه (اقتران خبرها بـ أن) وهو الذي وصفه الجمهور بالقلة .
أما إذا دلت على الشروع والإنشاء في الفعل (مع دلالتها أصلاً على شدة المقاربة) فإنها لذلك تجري مجرى أفعال الإنشاء والشروع (جعل ، طفق ..) ونحوها في عدم مناسبة اقتران خبرها بأن ؛ إذ لا تراخي هنا فالفعل قد بُدء فيه بالفعل ، لذا لم يكن من المناسب الإتيان بأن مع الخبر .
وبتسليط الضوء على النصوص في هذه القضية يتضح ما رمينا إليه هنا ، ففي قوله تعالى : ((فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ )) الذبح قد بُدئ فيه بالفعل ، فصار الفعل شروعًا ، فلم يأت بأن مع الخبر .
وفي قوله : ((مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ))، فزيغ القلوب قد حصل وتم بالفعل ؛ لذا لم يأت بأن مع الخبر.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((كاد الفقر أن يكون كفرًا)) ، فالفقر من شدة مقاربته للبؤس والافتقار والمسغبة كاد يتحول إلى كفر ولكنه لم يتحول ، لأن المراد شدة المبالغة في ذم الفقر وأثره ، لا أن الفقر كفر ، وإلا لكان الفقير بشر حال .
وكذا في قوله صلى الله عليه و سلم: ((كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم)) ، فقد اقترب أمية من الإسلام بشدة حتى قرب من الدخول ، ولكنه لم يسلم ، لذا ناسب دخول ((أن)) على الخبر ليوحي بهذا التراخي في القرب وعدم الشروع في الفعل .
ويمكن تحقق الجانبين معًا كما في قول عمر - رضي الله عنه – :
((ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب، وذلك بعدما أفطر الصائم)) .
فقد جاء خبر كاد أولاً مقترنًا بأن ومجردًا منها ثانيًا ، وما هذا إلا لغرض دلالي أكيد ، والمراد هنا : أنه عندما همَّ أن يصلي العصر كانت الشمس قد غربت، وذلك يعني أنه لم يبدأ في صلاته حتى غربت الشمس ، ففعل المقاربة الأول لم يكن شرع في الفعل وبدأ فيه فأتى بـ ((أن)) ، وفعل المقاربة الثاني كان قد أنشأ في الفعل وأخذ فيه لذا لم يأت بـ ((أن)) ، ويدل على أن فعل المقاربة الثاني دل على الأخذ في الفعل والشروع فيه قوله : (( وذلك بعدما أفطر الصائم)) والصائم لا يفطر إلا بعد غروب الشمس فعلًا.
هذا ما أردناه من جانب الدلالة أن يكشف النقاب بعض الشيء ويوضح المراد في كل قول ، ويمكن حمل أكثر النصوص الشعرية التي وردت باقتران خبر (كاد – أو كرب) بـ ((أن)) على هذا المحمل أي الدلالة على عدم الشروع في الفعل مع الدلالة على شدة المقاربة وذلك عين ما ترتضيه المبالغة والبلاغة الشعرية .