اللفظ والمعنى
كتبه: عبد الهادي صافي
المصدر: مجلة الوعي الإسلامي - وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - الكويت، س 47،ع 533
سنة النشر: 2010م
هذه القضية لها أهميتها وخطرها في باب النقد، وقد اشتغل عليها كثير من النقاد في العصر العباسي، وليس ابن رشيق بدعًا بين النقاد، ولكنه في كتاب العمدة يكرر هذه القضية ويثيرها من جديد؛ لأن الجدل والصراع النقديين يكادان لا ينتهيان حولها.
والسؤال يجب أن يطرح على النحو التالي: أيهما أكثر تأثيرًا في العملية الشعرية اللفظ أم المعنى؟! وأين تظهر الشاعرية؟! وأين يكمن الإبداع الشعري، في اختيار اللفظ، أو في شرف المعنى وجدته وحداثته وطرافته؟!
هناك من الشعراء والنقاد القدامى من كان يفضل اللفظ على المعنى، ويجعله كل اهتمامه وغايته، يقول ابن رشيق في معرض الحديث عن اللفظ والمعنى: "ثم للناس فيما بعد آراء ومذاهب: منهم من يؤثر اللفظ على المعنى فيجعله غايته ووكده، وهم فرق: قوم يذهبون إلى فخامة الكلام وجزالته على مذهب العرب من غير تصنع كقول بشار بن برد:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية
هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
وهذا النوع أدل على القوة، وأشبه بما وقع فيه من موضع الافتخار، وفرقة أصحاب جلبة وقعقعة بلا طائل معنى إلا القليل النادر...".
وهذا الاختلاف في اللفظ والمعنى بدأ منذ العصر الأموي، واختلف الأدباء فيما بينهم عليها، وصارت هذه القضية مدار النقد كله، ثم اختلفوا في اللفظ أيهما أفضل، اللفظ الجزل القوي الذي يذهب فيه الشاعر مذهب القدماء من الشعراء، واللفظ الحوشي الغريب، أم اللفظ الجديد يبتدعه الشاعر ابتداعًا ويستخرجه استخراجًا دونما اعتماد على المتقدمين من الشعراء، واختلفوا كذلك في المعنى أيه أفضل، المعنى الذي يصور حياة البادية والصحراء والفيافي والإبل، أم المعنى الذي يصف حياة الشاعر وواقعه ومحيطه وبيئته.
إن اختلاف النقاد في العصور الأدبية المختلفة دليل على تعمقهم في النقد، فقد نقدوا اللفظ ونقدوا المعنى واختلفوا في نقدهما أيما اختلاف، ودخلوا في التفاصيل فأثاروا قضايا نقدية تثير الدهشة والإعجاب، وكانت الأجواء والمناخات الأدبية متاحة لهذه المناقشات والخصومات، فبعد الفتوحات الإسلامية، وانتشار الإسلام، هدأ الناس، واستراحوا واطمأنوا في أمصارهم وبلدانهم، فراحوا يبحثون في الأدب والنقد، ويكتبون في التاريخ والمدن والأمصار ويؤلفون في الحديث والفقه والتفسير، ويترجمون الكتب اليونانية إلى العربية ويقيمون ويشرحون وينقدون.
ولابن رشيق في هذا الفصل كلام جديد، لم أقرأ مثله في الكتب النقدية القديمة، يجد فيه الارتباط المحكم بين اللفظ والمعنى، وكأنني به يقول لا يكون التفاضل بين اللفظ والمعنى، ولا يصح ذلك لأنهما مرتبطان ارتباط الروح بالجسد، إنه يقدم لهذه المسألة النقدية بهذا التقرير القوي المتين: "اللفظ جسم، وروحه المعنى، وارتباطه به كارتباط الروح بالجسم، يضعف بضعفه، ويقوى بقوته، فإذا سلم المعنى واختل اللفظ كان نقصًا للشعر وهجنة عليه، كما يعرض لبعض الأجسام من العرج والشلل والعور وما أشبه ذلك، من غير أن تذهب الروح، وكذلك إذا ضعف المعنى واختل بعضه كان اللفظ من ذلك أوفر حظًا، كالذي يعرض للأجسام من المرض بمرض الأرواح، ولا تجد معنى يختل إلا من جهة اللفظ، وجريه فيه على غير الواجب، قياسًا على ما قدمت من أدواء الجسوم والأرواح، فإن اختل المعنى كله وفسد بقي اللفظ مواتا لا فائدة فيه، وإن كان حسن الطلاوة في السمع، كما أن الميت لم ينقص من شخصه شيء في رأي العين، إلا أنه لا ينتفع به ولا يفيد فائدة، وكذلك إن اختل اللفظ جملة وتلاشى لم يصح له معنى، لأنا لا نجد روحًا في غير جسم البتة".
فالرأي عنده ليس في تفضيل اللفظ على المعنى ولا في إيثار المعنى على اللفظ، وإنما اللفظ والمعنى كلاهما ضروري لإقامة البناء الفني للقصيدة، وهذا رأي معتدل ومنصف، فاللفظ يجب أن يكون سليمًا غير مختل من حيث حروفه، يجري على قواعد الفصاحة والبلاغة مع خلوه من التعقيد والغرابة وتكون مخارج حروفه متقاربة، بالإضافة إلى جزالته ومتانته، والمعنى يجب أن يكون قويًا لا ضعف فيه، وصحيحًا لا سقم يعتريه.
إن خصائص اللفظ عند هذا الفريق، الذي يؤثر اللفظ على المعنى، أن يكون فخمًا، جزلا، يجري على مذهب العرب، غير متكلف ولا متصنع، وفريق آخر "ذهب إلى سهولة اللفظ فعني بها، واغتفر له في الركاكة واللين المفرط كأبي العتاهية، وعباس بن الأصق، ومن تابعهما...".
والفريق الآخر الذي يؤثر المعنى على اللفظ فأولئك - برأي ابن رشيق- يضعون شرطًا فنيًّا هو صحة المعنى وإن كان اللفظ هجينًا خشنًا قبيحًا، ويمثل لأصحاب هذا المذهب بابن الرومي وأبي الطيب وما شاكلهما، ويسميهم المطبوعين الذين يجرون على الطبع دونما تكلف للفظ أو رونق.
وأما الذين يفضلون اللفظ على المعنى ويعطونه الأسبقية في عملية الشعر فيضعون أسبابًا فنية لرأيهم ومذهبهم الأدبي "وأكثر الناس على تفضيل اللفظ على المعنى، قال العلماء: اللفظ أغلى من المعنى ثمنًا وأعظم قيمة، وأعز مطلبًا، فإن المعنى موجود في طباع الناس، يستوي الجاهل فيها والحاذق، ولكن العمل على جودة الألفاظ، وحسن السبك، وصحة التأليف، ألا ترى لو أن رجلًا أراد في المدح تشبيه رجل لما أخطأ أن يشبهه في الجود بالغيث والبحر، وفي الإقدام بالأسد، وفي المضاء بالسيف، وفي العزم بالسيل، وفي الحسن بالشمس، فإن لم يحسن تركيب هذه المعاني في أحسن حلاها من اللفظ الجيد الجامع للرقة والجزالة والعذوبة والطلاوة والسهولة والحلاوة لم يكن للمعنى قدر".
إن جهود ابن رشيق القيرواني في النقد تدل على شدة حرصه على المساهمة في البناء المعرفي النقدي في عصره، والتميز النقدي الذي نراه واضحًا أمامنا يدل على تفتح في الذهنية الثقافية عنده، كان ذا فكر مستقل، وشخصية خصوصية لا تنساق لآراء سبقت، ولا ينجر وراء أفكار قديمة، ولكنه يحاول - ما استطاع- أن يجد لنفسه رأيًا ومذهبًا نقديًا مغايرًا ومختلفًا عن سائر الآراء والمذاهب التي سادت عصره أو تلك التي وجدت قبله.
ولكنه عرض لرأيه النقدي ومذهبه الفني في بداية الحديث عن اللفظ والمعنى، وأعلنه مسبقًا حين قال بالارتباط القوي بين اللفظ والمعنى وبأن اللفظ جسم روحه المعنى، وارتباطه به كارتباط الروح بالجسم.. فلا يصلح، بناء على هذا، في عملية الإبداع الشعري أن تقوم على أحد هذين العمودين، وقد شبه تخلف اللفظ عن المعنى بالرجل المريض المشلول، جسمه شاخص للعيان إلا أنه لا قدرة له على الحركة والمسير، فالقصيدة الشعرية لا تقوم لها قائمة إلا بهذين الأساسين اللفظ والمعنى، فمن يفضل اللفظ على المعنى- برأيه- خاطئ، ومن يفضل المعنى على اللفظ جانب الصواب.
ومع شدة حرصه على التجديد والحداثة إلا أنه لا يسمح بتجاوز عمود الشعر وخصائصه الموروثة وتقاليده وأصوله المعتمدة، ونراه يغلق الباب والنوافذ أمام تيارات التجديد في الأدب، فهو يختتم حديثه عن اللفظ والمعنى بهذا الكلام القاسي بحق النقد والتجديد "وللشعراء ألفاظ معروفة، وأمثلة مألوفة، لا ينبغي للشعر أن يعدوها ولا أن يستعمل غيرها، كما أن الكتاب اصطلحوا على ألفاظ بأعيانها سموها الكتابية لا يتجاوزونها إلى سواها، إلا أن يريد شاعر أن يتظرف باستعمال لفظ أعجمي فيستعمله في الندرة، وعلى سبيل الخطرة، كما فعل الأعشى قديمًا وأبو نواس حديثًا، فلا بأس بذلك.. والفلسفة وجر الأخبار باب آخر غير الشعر، وإنما الشعر ما أطرب، وهز النفوس، وحرك الطباع، فهذا هو الشعر الذي وضع له وبني عليه ما لا ما سواه".
إن ابن رشيق يعلي من شأن القارئ، ويرضي غروره، ويقدم إليه عبر النص كل ما يحتاجه من موسيقى شعرية تهزه من الأعماق، وإلى تحريك غرائزه الحسية، وإذا أعطينا رأي ابن رشيق أبعاده، يمكن أن نقول إن قوله في العناية بالمتلقي يتقاطع مع ما تذهب إليه البنيوية والتفكيكية من الاحتفال بالمتلقي وإغفال كل ما هو خارج السياق النصي.
وهكذا يأخذ ابن رشيق يوضح هذه القضايا الأدبية التي اشتغل عليها النقاد القدامى، يوازنون بين الألفاظ ويقارنون بينها، فالألفاظ يجب أن تكون أدبية تعلو على ألفاظ السوقة، ولا تقترب من الألفاظ الوحشية، ولكننا نتساءل هنا: لماذا كان هذا التعويل على إثارة هذه القضية.. قضية اللفظ والمعنى؟ أهمها فقط من أعمدة القصيدة العربية، دون الالتفات إلى أعمدة أخرى، أو مقومات فنية للقصيدة العربية؟ لماذا لم يبحث قضية الصورة الفنية في هذا الوقت- وقت ابن رشيق-؟ ولماذا لم يبحث قضية الوزن الشعري ووجوب مواءمته لموضوع القصيدة؟! أو غيرها من القضايا التي تتعلق ببناء القصيدة العربية، ولكن لا نظلم ابن رشيق علينا أن نتوسع في مصطلح اللفظ والمعنى إلى مصطلح أكبر وأوسع وهو مصطلح الشكل والمضمون، والشكل يجمع الألفاظ والتراكيب والصور، والوسائل التعبيرية الأخرى، وهذا ما يرمي إليه ابن رشيق القيرواني.