الخلط بين المستويات في المطابقة وأثر ذلك في الدرس النحوي
الدكتور/ فوزي الشايب
الجملة نسيج لغوي مستقل، وهي كبرى الوحدات اللغوية، وعنصر الكلام الأساسي، فبالجمل نتبادل الأحاديث فيما بيننا، وبالجمل نكتسب لغتنا.وبالجمل نتكلم،وبها نفكر أيضا (1) والروح التي تقوم بها الجملة هي الإِسناد، والإِسناد في حقيقة أمره: نسبة تفيد، قال السكاكي (2): " والإسناد هو تركيب كلمتين أو ما جرى مجراهما على وجه يفيد السامع ".
وطرفا الإِسناد كما هو معروف: مسند إِليه ومسند. والإِسناد: هو العلاقة النحوية الرابطة بينهما، والإِسناد بطرفيه يمثل البنية النحوية للجملة التي تتكون من وظيفتين نحويتين هما: المبتدأ والخبر في الجملة الاسمية، والفعل والفاعل في الجملة الفعلية، وهاتان الوظيفتان النحويتان تقوم بهما وحدات صرفية، أي كلمات. وهذه الكلمات والارتباطات الصرفية القائمة بينها تمثل البنية الصرفية، وعليه فالجملة إِذا كيان لغوي مزدوج البنية، ولذا فإِنه من الضروري أن نميز في التحليل اللغوي بين البنية النحوية للجملة وبين بنيتها الصرفية، فلو أخذنا على سبيل المثال جملة مثل: " محمدٌ رجلٌ أمينٌ " وحللناها لوجدنا أنها تتكون من جزأين هما: المسند إِليه، أي المبتدأ (محمد)، والمسند أي الخبر (رجل أمين) وهذان الجزآن ما هما إِلا وظيفتان نحويتان تؤديهما البنية الصرفية التي تجسدها الوحدات الصرفية: [ محمد] و [ رجل ] و[ أمين ]، أي أن هاتين الوظيفتين النحويتين تؤديهما، وتقوم بهما ثلاث وحدات صرفية، وبهذا يتضح لنا أن البنية النحوية للجملة تختلف عن بنيتها الصرفية ليس في النوع فقط، بل في الارتباطات القائمة بين أجزاء كل واحدة منهما، وفي الكم أيضا، فالبنية النحوية في الجملة السابقة كما بينا تتكون من وحدتين أو جزأين، في حين تتكون البنية الصرفية لنفس الجملة من ثلاث وحدات.
وترتبط الوحدات الصرفية فيما بينها بعلاقات صرفية تفرضها خصائص مركبات أقسام الكلام، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بمركبات أجزاء الجملة: مسند إِليه/ مسند.
وأبرز هذه العلاقات أو الارتباطات الصرفية القائمة بين وحدات البنية الصرفية للجملة هي: المطابقة (في العدد والجنس والإِعراب). والمطابقة في حقيقة أمرها ما هي إِلا مماثلة الكلمة التابعة نحويا للكلمة المسيطرة نحويا (3)، من ناحية صرفية. وعليه، فإِن الوحدة الصرفية [رجل] في جملتنا: (محمد رجل أمين) وهي الوحدة التابعة نحويا، جاءت مفردة، ومذكرة، ومرفوعة على سبيل المماثلة الصرفية للوحدة المسيطرة نحويا وهي [محمد]، كما أن الوحدة الصرفية [ أمين] وهي الوحدة التابعة نحويا، جاءت كذلك مفردة، مذكرة مرفوعة من أجل تحقيق المماثلة الصرفية للكلمة المسيطرة نحويا [رجل] ويمكن تمثيل ذلك بالرسم الآتي:
1) 2) 3)
[ محمد ] [ رجل أمين ]
أ ب
(وتشير الأرقام [1، 2، 3] إِلى الوحدات الصرفية التي تتكون منها الجملة أما الحرفان (أ، ب) فيشيران إِلى الوحدات النحوية التي تتكون منها الجملة).
ومما ينبغي تأكيده هنا أنه لا علاقة للمطابقة، أي المماثلة الصرفية بالوظائف النحوية: مبتدأ/ خبر، أو مسند إِليه ومسند. وبهذا يتبين لنا أنْ الارتباطات الصرفية بين الكلمات والارتباطات النحوية بين أجزاء الجملة نوعان مختلفان من الارتباطات، ومن ثم فإِن الكلام على وجوب مطابقة الخبر للمبتدأ غير صحيح وغير مقبول من حيث المبدأ (4).
وقد درجت القواعد التقليدية على الخلط، وعدم التمييز بين البنية النحوية لله جملة، وبين بنيتها الصرفية، ونجم عن ذلك أنها أخذت تنظر إِلى الارتباطات الصرفية على أنها ارتباطات نحوية، أي نظرت إِليهما على أنهما شيء واحد، ومن هنا كانت القاعدة النحوية التقليدية بوجوب مطابقة المبتدأ للخبر. قال ابن كمال باشا (5): " وحكم الخبر أن يطابق المبتدأ إِفرادا وتثنية وجمعا وتذكيرا وتأنيثا..." وقد أدى هذا الخلط بين العلاقات النحوية والعلاقات الصرفية إِلى نتائج وأحكام وتعليلات غير مقنعة وغير مقبولة.
ولعل أبرز نتائج هذا الخلط هو إِثبات نوع غريب من المبتدأ. هو ما اصطلح على تسميته ب: الوصفي الرافع لمكتفى به نحو:
أناجحٌ الطالبان؟
حيث ذهب النحاة إِلى إِعراب الرصف "ناجح" "مبتدأ"، و "الطالبان " فاعلا سد مسد الخبر، ولم يعربوا الوصف المتقدم خبرا، والمرفوع بعده مبتدأ مؤخرا بسبب عدم المطابقة في العدد بين هذين الركنين، قال ابن الناظم (6): " فإِن قلت: فلم لم يجعل الوصف في مثل هذا المثال خبرا مقدما وما بعده مبتدأ؟ قلت: لعدم المطابقة ". وعليه، فالمطابقة، وهي علاقة صرفية اتخذت دليلا على عدم الخبرية، وهي وظيفة نحوية، وهذا يعني تحكيم البنية الصرفية للجملة في بنيتها النحوية، وتوقف الوظيفة النحوية على العلاقات الصرفية وهذا خلط واضح بين مستويين مختلفين.
وفي الحقيقة إِن إِعراب الوصف: في مثل جملتنا السابقة مبتدأ، وما بعده فاعلا سد مسد الخبر يجعلنا أمام جملة عجيبة، وتركيب غريب، فالوصف بوصفه مبتدأ ينبغي أن يكون اسما، وأن يكون مسندًا إِليه. والمرفوع بعده أي الفاعل، مسند إِليه هو الآخر. وعليه، فنحن أمام جملة تتكون من رأسين إِن جاز هذا التعبير، لا جذع لها ولا أطراف. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى جاء المبتدأ نكرة، والذي سد مسد الخبر معرفة. ومن ناحية ثالثة، فالوصف بحكم إِعرابه مبتدأ ينبغي أن يكون مخبرا عنه، أي مسنداً إِليه، ولكن الوصف في الحقيقة هو محط الفائدة، ومحط الفائدة هو الخبر، فالوصف على هذا مبتدأ وخبر في نفس الوقت ؛ مبتدأ في اللفظ والإِعراب، وخبر في المعنى فلا هو مبتدأ خالص، ولا هو خبر خالص. ثم إِن الوصف عمل في المرفوع بعده عمل الفعل في الفاعل، فهو فعل في العمل. واسم في الوظيفة. وحتى يكون هذا الإِعراب منسجما مع القواعد النحوية اضطر النحويون إِلى اعتبار الوصف ذا طبيعة مزدوجة: فهو اسم من جهة اللفظ، وفعل من جهة المعنى والعمل. قال ابن يعيش (7): " واعلم أن قولهم: أقائم الزيدان؟ إِنما أفاد نظراً إِلى المعنى، إِذ المعنى: أيقوم الزيدان؟ فتم الكلام؛ لأنه فعل وفاعل وقائم هنا اسم من جهة اللفظ، وفعل من جهة المعنى فلما كان الكلام تاما من جهة المعنى أرادوا إِصلاح اللفظ فقالوا: " أقائم" مبتدأ، و" الزيدان " مرتفع به، وقد سدّ مسدّ الخبر".
وإِعراب المرفوع بعد الوصف " فاعلا " جعل المبتدأ لا خبر له، ومن هنا كان المبتدأ عندهم على نوعين: مبتدأ له خبر، ومبتدأ لا يحتاج إِلى خبر. وهو الوصف الرافع لمكتفى به. وإِنما لم يكن له خبر؛ لأنه في حد ذاته الخبر. والخبر إنما يخبر به لا عنه فهو مبتدأ مخبر به كالاٍخبار بالفعل (8). مبتدأ مسند إِلى ما بعده، إِسناد الفعل إِلى الفاعل (9). وقد وضح ابن مالك سبب استغناء هذا الوصف عن الخبر فقال (10): " إِن سبب استغنائه عن الخبر شدة شبهه بالفعل: لأن قولك: اًضارب الزيدان؟ بمنزلة: أيضرب الزيدان؟ فكما لا يفتقر:" أيضرب الزيدان"، إِلى مزيد في تمام الجملة، كذلك لا يفتقر ما هو بمنزلته، لأن المطلوب من الخبر إِنما هو تمام الفائدة، وذلك حاصل بالوصف المذكور ومرفوعه".
ولأن الوصف ليس فعلا خالصا، وإنما هو فعل في المعنى فقد اشترط جمهور النحاة البصريين اعتماده على ما يعزز فيه جانب الفعلية، وذلك بالاعتماد على نفي أو استفهام "لأن الصفة لا تصير مع فاعلها جملة كالفعل إِلا مع دخول معنى يناسب الفعل عليها كمعنى النفي أو الاستفهام…"(11)،وهذا الشرط استحساني عند سيبويه وليس واجبا،فيجوز عنده إِعمال الوصف دون اعتماد،ولكنه جائز عنده على قبح،وذلك لتضمنه معنى الفعل.قال ابن مالك (12): "ومن زعم أن سيبويه لم يجز جعله مبتدأ إِذا لم يلِ استفهاما أو نفيا فقد قوّله ما لم يقل ". وأما الأخفش والكوفيون فلا يشترطون في إِعمال الوصف الاعتماد، فهو جائز دون اعتماد عندهم في السعة والاختيار، حجتهم في ذلك السماع، وذلك قوله:
خبير بنو لهب فلاتك ملغيا
مقالة لهبي إِذا الطير مرّت
و قو له:
فخير نحن عند الناس منكم
إِذا الداعي المثوب قال يا لا (13)
وقد تأول المشترطون البيت الأول على أن الوصف خبر مقدم والمرفوع بعده مبتدأ مؤخر، واغتفر فيه عدم المطابقة لأن صيغة " فعيل " تفيد على حد قولهم معنى الجمع (14). ومن ثم فلا تلزم فيه المطابقة (15).
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: إِذا كان الوصفي إِنما عمل فرفع ما بعده على الفاعلية بسبب مشابهته الفعل وتنزيله منزلته، فكيف نفسر رفعه للضمير المنفصل في قوله (16):
خليليّ ما وافٍ بعهدي أنتما
إِذا لم تكونا لي على من أقاطع
وفي قوله: (17)
أمنجز أنتم وعدا وثقت به
أم اقتفيتم جميعا نهج عرقوب
كيف يجوز للوصف وهو فرع على الفعل في العمل (18) أن يرفع الضمير المنفصل على الفاعلية مع أنه لا يجوز ذلك في الفعل؟ إِذا كنا لا نجيز: ما وفي أنتما، ولا: أ أنجز أنتم؟ فكيف نجيز ذلك في الفرع؟ والفروع على حد قولهم منحطة أبدا عن درجات الأصول (19). ونظرا إِلى أنه لا يجوز في الضمير الانفصال إِذا تأتى الاتصال فإِن الكوفيين والزمخشري وابن الحاجب (20) اشترطوا في المرفوعِ الساد مسد الخبر أن يكون اسما ظاهرًا لا ضميرَا، معللين ذلك بقولهم (21) " لأن الوصف إذا رفع الساد مسد الخبر جرى مجرى الفعل والفعل لا ينفصل منه الضمير". ولكن غيرهم احتج لجواز ذلك بهذين الشاهدين. ويبدو أن ابن هشام قد أدرك قوة حجتهم إِلا أنه لم يجد بدا من إِعراب الضمير فاعلاً سد مسد الخبر نظرًا
إِلى أنه لا يخبر عن المثنى بالمفرد (22)، وإذا كان هذا لا يجوز في المثنى، فهو من الجواز بالنسبة للجمع من وجهة نظرهم أبعد. فعدم المطابقة وهي علاقة صرفية جعلتهم يتجاوزون عن عمل الوصف عملا لا يجوز في أصله وهو الفعل.
ومما تجدر الإِشارة إِليه أنهم في الوقت الذي نصوا فيه على أن الوصف إِنما عمل فرفع فاعلاً من باب شبهه بالفعل، وتنزيله منزلته، فإِنهم لم ينزلوه منزلته من حيث المطابقة، إِذ المعروف أن الفعل إِذا تقدم على الفاعل كان موحدا على كل حال (اللهم إِلا في لغة " أكلوني البراغيث ") هكذا:
نجح زيدٌ .
نجح الزيدان.
نجح الزيدون.
فإِذا كان هذا هو حال الفعل مع فاعله، فَلمَ يستنكر ذلك في فرعه؟ لم حمل عليه في العمل وَلم يحمل عليه في عدم المطابقة الصرفية؟ لقد حرصوا على أن يوضحوا بأن: أقائم الزيدان؟ وأقائم الزيدون؟ هما بمنزلة: أيضرب الزيدان؟ وأيضرب الزيدون؟ (23). فإِذا كان ذلك كذلك لم استنكر عدم المطابقة الصرفية في الفرع، ولم تستنكر في الأصل؟
ونقول بعد هذا كله إِن إِلقاء نظرة عامة على جملة مثل قولنا: أقائم الزيدان؟ يجعلها تبدو لنا جملة فعلية، لا اسمية فالوصف المتقدم على الرغم من إِعرابه مبتدأ عندهم فهو مسند لا مسند إِليه تماما كالفعل في مثل: يقوم الزيدان. ثم إِن الوصف عمل في المرفوع بعده عمل الفعل في فاعله، ثم إِن الوصف جاء موحدا كما يكون الفعل مع فاعله، تماما،واعتبار مثل هذه التراكيب جملا فعلية هو ما ذهب إِليه الدكتور مهدي المخزومي تأثرًا منه على ما يبدو بتسمية الكوفيين لصيغة " فاعل " بالفعل الدائم. ولذا فإِنه حمل على البصريين بشدة لإِعرابهم الوصف في هذه الأمثلة مبتدأ، فقال (24): " أما قولناا: أقائم الرجلان؟ أو قائم الرجلان، فرفعه لا يعني شيئا ولا دلالة له على معنى إِعرابي يقتضي الرفع، ولهذا كان من السخف القول بأنه مرفوع على الابتداء كما زعم البصريون، وأنه مبتدأ سد فاعله مسد خبره؛ لأنه لا يكون مبتدأ بحال لأنه إِذا كان مبتدأ كان مسندا إِليه ولا يصبح القول بأنه مسند إِليه، لأنه مسند أبدًا، والمسند إِليه هو ما بعده المرفوع ".
لقد انطلق الدكتور المخزومي في حكمه على مثل هذا النوع من الجمل بأنها جمل فعلية من مسلمة هي أن صيغة "فاعل " صيغة فعلية لفظًا ومعنى، ولذا كانت الأفعال عنده من حيث الدلالة الزمنية تقسم إِلى ثلاثة أقسام هي: الفعل الماضي، والفعل المضارع والفعل الدائم، أي " فعل " و" يَفْعِل " و" فاعل " (25). وطالما أن صيغة " فاعل " صيغة فعلية لفظا ومعنى فإِن وقوعها في سياق النفي أو الاستفهام لا يغير حقيقتها ولا يزيدها شيئا (26). ولهذا فإِنه حمل على البصريين بسبب إِهمالهم لصيغة" فاعل " وعدم إِدراجها ضمن أبنية الأفعال (27).
وأما نحن فنخالف الدكتور المخزومي الرأي، فصيغة "فاعل " ليست صيغة فعلَية محضة، ومن ثم فإِن الجمل مثل: أقائمٌ الزيدان؟ جمل اسمية لا فعلية، ذلك أن عدّ صيغة "فاعل)) فعلا مع لحاق التنوين لها أمر يصعب جدا تقبله وحتى الكوفيون
أنفسهم الذين سموا هذه الصيغة بالفعل الدائم لم يقولوا عنها أنها فعل حقيقة لفظا ومعنى، وإنما ذهبوا إِلى أنها اسم لفظا وفعل معنى وعملا، وهم في هذا الذي ذهبوا إِليه لا يختلفون عن غيرهم (28). ولنتأمل كلام ثعلب بهذا الخصوص، قال ثعلب (29): "كلمت ذات يوم محمد بن يزيد البصري، فقال: كان الفراء يناقض يقول: " قائم " فعل. وهو اسم لدخول التنوين عليه. فإِن كان فعلا لم يكن اسما، وإن كان اسما فلا ينبغي تسميته فعلا. فقلت: الفراء يقول: " قائم " فعل دائم لفظه لفظ الأسماء لدخول دلائل الأسماء، عليه، ومعناه الفعل لأنه ينصب فيقال: قام قياما، وضاربٌ زيدا. فالجهة التي هو فيها اسم ليس هو فيها فعلاً، والجهة التي هو فيها فعل ليس هو فيها اسما". هذا هو كلام الكوفيين أنفسهم بشأن ما سموه " الفعل الدائم " فليس هو فعلا محضا، ولو كان عندهم كذلك ما ترددوا في إِدراج نحو: أقائم الزيدان؟ ضمن الجمل الفعلية، ولكن الكوفيين على حسب ما ذكر النحويون لا يختلفون عن غيرهم في هذه المسألة، فالوصف عندهم مبتدأ، والمرفوع بعده فاعل سد مسد الخبر، ولا يختلفون عن البصريين إِلا في نواحي شكلية لا تمس الإِعراب، وهو أنهم لا يشترطون في الوصف الاعتماد على نفي أو استفهام، وأنهم يعدون الوصف و مرفوعه مترافعين. قال ابن مالك (30): " والكوفيون كالأخفش في عدم اشتراط الاستفهام والنفي في الابتداء بالوصف إِلا أنهم يجعلونه مرفوعا بما بعده، وما بعده مرفوعا به على قاعدتهم ".
وعليه، فإِذا لم يكن ثمة فرق بين البصريين والكوفيين بشأن إِعراب الوصف مبتدأ في هذه الحالة فإِنه لا معنى لقول الدكتور المخزومي في النص الذي أوردناه سابقا وهو: " كان من السخف القول بأنه مرفوع على الابتداء كما زعم البصريون". وكذلك قوله (31): (ومع شعور البصريين بفعلية " قائم" في قولنا: (أقائم المحمدان) لا يزالون يعربونه مبتدأ. وهو إِعراب غريب حقا...". لا معنى لهذه الأقوال؛ لأنها تفيد ضمنا أن الكوفيين لا يعربون الوصف في مثل هذه التراكيب مبتدأ، مع أن الكوفيين لا يختلفون عن البصريين في هذه المسألة.
ويرى الدكتور المخزومي أن دخول التنوين على الوصف في مثل: أقائم المحمدان؟ ليس دليلا على إِسميته، ومن ثم فلا يخرج صيغة" فاعل" أي الفعل الدائم عن حد الفعلية؛ لأن هذا التنوين من وجهة نظره ليس ذاك الذي هو من خصائص الأسماء، وإنما هو عنده تنوين خاص بالفعل الدائم يخصصه بالزمان المستقبل (32). وقد اعتمد في ذلك على نص للفراء وهو بصدد تفسيره قوله تعالى (كل نفس ذائقةُ الموت) (33). يقول فيه (34): " لو نُوّنت في ذائقة " ونصبت " الموت " كان صوابا وأكثر ما تختار العرب التنوين والنصب في المستقبل، فإِن كان معناه ماضيا لم يكادوا يقولون إِلا بالإضافة ". إِن نص الفراء هذا لا يفهم منه البته أن التنوين اللاحق لاسم الفاعل تنوين خاص بهذه الصيغة، يختلف عن التنوين في الأسماء. وكيف يقوله ذلك والتنوين هو كما ذكر ثعلب في النص الذي سقناه فيما مضى (35) هو علامة إِسمية هذه الصيغة لفظا عند الفراء؟ ثم إِن الفراء في نصه هذا لم يخرج على ما قرره النحاة عموما وهو أن اسم الفاعل إِذا كان مجردا من " ال " فإِنه لا يعمل النصب إِلا إِذا كان بمعنى الحال والاستقبال، وذلك على حد قولهم حتى تتم مشابهته للفعل لفظا ومعنى (36). قال سيبويه (37):" فإِذا أخبر أن الفعل قد وقع وانقطع فهو بغير تنوين البته؟ لأنه إِنما أجرى مجرى الفعل المضارع له، كما أشبهه الفعل المضارع في الإِعراب، فكل واحد منهما داخل على صاحبه". وعليه، نقول إِن الدكتور المخزومي قد حمّل نص القراء ما لم يحتمل،واستنتج منه أحكاما كما يود ويشتهي هو لا كما ينطق به لسان حال النص.
وعليه فليس التنوين اللاحق لاسم الفاعل نوعا خاصا بهذه الصيغة، وليست "قائم " في قولنا: أقائم المحمدان؟ لا توصف بتنكير ولا تعريف كما قال الدكتور المخزومي (38) كما أن التنوين الخاص بالأسماء، ليس هو تنوين التنكير فقط كما ذكر الدكتور الفاضل (39)، ذلك أن هدأ النوع من التنوين إِن هو إِلا واحد من أربعة أنواع اختص بها الاسم، وهو يكون في الأعلام المبنية فرقا بين معرفتها ونكرتها مثل:مررت بسيبويهِ، و" وسيبويهٍ " آخر، وفي أسماء الأفعال نحو إِيهِ وإِيه… وهو قياسي في العلم المختوم ب " ويه "، وسماعي في اسم الفعل، واسم الصوت (40) والنوع الثاني من التنوين هو تنوين التمكين الذي يدخل في الأسماء للفرق بين ما ينصرف وما لا ينصرف (41) وذلك نحو تنوين رجلٍ وفرسٍ وزيدِ وعمروٍ . وهذا التنوين هو الذي نجده في اسم الفاعلَ في: " أقائمٌ المحمدان؟ ولكن ليس هناك ما يمنع أن يكون التنوين في " قائم"، ورجلٍ وفرسٍ مزدوج الوظيفة، أي أنه يكون علامة للتمكين والتنكير" فرب حرف يفيد فائدتين "وهذا هو ما ذهب إِليه الرضي الاستراباذي (42).