سلسلة (عالم ورأي)
تهدف هذه السلسلة إلى استجلاء رأي عالم من علمائنا حول قضية من القضايا، أو عقبة من العقبات التي تواجه أبناء العربية، أو طرح رؤية لاستنهاض الهمم وتحفيز العزائم. فإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر.

79-عالم ورأي-أ.د. محمد حسن عبد العزيز، ورأيه في عرفية اللغة وتغيرها:
العلاقة بين الدال والمدلول اعتباطية arbitrary عرفية conventional فليس ثمة علاقة ضرورية أو طبيعية بينهما؛ ولهذا اختلفت اللغات، واختلفت لهجات اللغة الواحدة. وليس لدينا سبب جوهري يبين لنا لماذا اختير دال بعينه لمدلول بعينه، وفي كل لغة من اللغات الحية يمكن أن يستبدل بدال معين دال آخر، متى تعارف أصحاب اللغة على ذلك.
والعرف يعني الاتفاق في السلوك والعمل. إن المتكلمين في مجتمع معين يستخدمون الكلمات نفسها للإشارة إلى الأشياء نفسها، ويستخدمون أنواعًا من التراكيب للتعامل بها في مواقف متشابهة، إنه العرف الضمني الذي يكوِّن الأنظمة ويقرها ويحافظ عليها، وكل فرد منا يكتسب لغته من مجتمعه المعين، ويتلقى بين أحضانه كل القواعد التي تنتظم لغته.
وقد بحث العرب في موضوع العلاقة بين الدال والمدلول حين عرفوا منطق أرسطو الذي تُرجم في بداية النصف الثاني من القرن الثاني الهجري. وقد جرى شراح أرسطو من الفلاسفة المسلمين على ما اختاره، وقالوا إنها علاقة قائمة على الاتفاق والتواطؤ، وأنكروا-كما أنكر أرسطو-المناسبة الطبيعية بين الدال والمدلول. وجرى على ذلك أيضًا جمهور المتكلمين والأصوليين. أما اللغويون فقد لاحظوا مناسبة ما بين بعض الكلمات أو الصيغ ومدلولاتها، ولكنهم –بعامة-قالوا بعرفية العلاقة.
ينبني على القول بعرفية اللغة إثبات أنها ليست أسماء تقابل مفاهيم موجودة سلفًا أو ثابتة لا تتغير، فالتغير يلحق الدال كما يلحق المدلول.
والتغير اللغوي-كالتغير الاجتماعي-لا محيد عنه، وليس ثمة لغة طبيعية في العالم استطاعت أن تقاومه، كما أنه يخضع لقوانين اجتماعية في مجملها، وهو يلحق عناصر اللغة المختلفة: الأصوات والأبنية والدلالات. ولكن التغير الدلالي أسرع وقوعًا وأوضح أثرًا؛ لأنه مصاحب للتغيرات الاجتماعية والثقافية والبيئية التي تقع مع توالي الأزمان.
ولأن اللغة-كأي ظاهرة اجتماعية-نتاج موروث من أجيال سابقة ينبغي علينا قبوله للحفاظ على تماسك المجتمع وتفاهم أفراده-فإن الدوال غالبًا ما تحتفظ بثبات نسبي. وعلى هذا تخضع اللغة لعاملين متقابلين أحدهما يعمل على تغييرها؛ لأنها واقعة في الزمن، ومرتبطة بعوامل اجتماعية متغيرة، والثاني يعمل على تثبيتها؛ لأنها ميراث السلف الذي لا يمكن التفريط فيه.
تناقل الفلاسفة ما ذكره أرسطو عن علاقة الأسماء بالمسميات وحددوا المفاهيم الخاصة بها فتحدثوا عن الألفاظ المنقولة والمستعارة والمترادفة، وتكلموا عن التعميم والتخصيص والاشتراك والتباين... إلخ، وهي كلها مفاهيم ناتجة عن القول بتغير أحد طرفي العلاقة: الدال أو المدلول. وكان الفقهاء واللغويون سباقين في هذا المضمار حيث نبهوا إلى ما لحق بعض الألفاظ من تغير في مدلولاتها بحدوث الإسلام، وسموها الألفاظ الإسلامية، وجرى في كتبهم التفريق بين المعنى اللغوي والاصطلاحي.
المصدر: اللغة العربية: المبادئ الأساسية لوضع المصطلحات: طريق إلى توحيد المصطلح العلمي العربي، بحث مقدم إلى مؤتمر: اللغة العربية وتحديات البقاء، ص 104، 105. (بتصرف)
إعداد: د.مصطفى يوسف