خفاء العلاقة بين الشرط والجواب في القرآن
د. أحمد درويش
قال تعالى ﴿وَإِن خِفتُم أَلّا تُقسِطوا فِي اليَتامى فَانكِحوا ما طابَ لَكُم مِنَ النِّساءِ مَثنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ﴾[النساء: 3]
هذي الآية بسببها ...مع آيات غيرها ...تعرض القرآن للطعن والتشكيك ... قال ابن قتيبة: " ﻭﻗﺎﻟﻮا: ﻓﺄﻳﻦ ﻗﻮﻟﻪ: ﻭﺇﻥ ﺧﻔﺘﻢ ﺃﻻ ﺗﻘﺴﻄﻮا ﻓﻲ اﻟﻴﺘﺎﻣﻰ، ﻣﻦ ﻗﻮﻟﻪ: ﻓﺎﻧﻜﺤﻮا ﻣﺎ ﻃﺎﺏ ﻟﻜﻢ ﻣﻦ اﻟﻨﺴﺎء ﻣﺜﻨﻰ ﻭﺛﻼﺙ ﻭﺭﺑﺎﻉ [اﻟﻨﺴﺎء: 3] "
يقصد الطاعنون أنه لا وجه للتناسب بين الشرط وجوابه ، فالشرط إن خفتم ظلم اليتامى ، والجواب : فانكحوا ما طاب ... ما العلاقة هنا ؟
العلاقة لا تبدو واضحة جلية ... لدرجة أن الإمام ابن عاشور ...رضي الله عنه ... قال : إن هذي الآية مما خفيت على بعض علماء السلف ... ومن هنا كان الطعن في تراكيب القرآن ...
والحق أن السياق التاريخي مؤذن ببيان العلاقة بين الشرط والجواب؛ فالفتاة اليتيمة تكون تحت ولاية وليها ،فيريد الزواج منها من دون عدل ،فيظلمها ظلما بينا ، فهو يريد مالها لا حسن الصحبة والمعاشرة النبيلة ، فنهي الأولياء عن الزواج منهن ؛فالنساء غيرهن كثيرات وفي الأمر مندوحة ، فكان المعنى (فإن خفتم ظلم اليتامى فانكحوا غيرهن ممن تستطيبه أنفسكم ،حتى لا تقع اليتيمات في براثن الظلم) ... هذا هو الأقرب في الربط بين الشرط وجوابه ... وفي التفسير أوجه كثيرة للغاية تربو على خمسة الأوجه أو ستتها ، لكن هذا عندي هو الأقرب والأوضح...
لكن يظل السؤال المحير : لم لم يكن التركيب ، ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فلا تنكحوهن...) ؛فهذا أبين بكثير مما جاء في تعبير القرآن ؟
قلت: تعبير القرآن هو الأعلى بيانا والأمضى في فهم طبيعة النفس البشرية ؛لأن النفس البشرية تتشوف دوما إلى الممنوع ، كما نقول ( الممنوع مرغوب) ، أو كما قال الشاعر ( وحب شيء إلى الإنسان ما منعا) ... فصرف الله النفس إلى الفضاء الرحب بالزواج من غيرهن ، ورغب في ذلك عندما وصف النكاح الآخر بالطيب ( ما طاب لكم من النساء) ترغيبا في غيرهن ، واستمالة للقلوب حتى تنصرف عن ظلم اليتيمات ، فالقرآن يطرح مشكلة ويقدم حلها بالتوسعة على النفس ، وعدم الترصد لليتيمات ...
والحق أن هذا الفهم جاء من نفَس الإمام أبي السعود في تفسيره الراقي: " إرشاد العقل السليم" عندما قال: "ﻭﻓﻲ ﺇﻳﺜﺎﺭ اﻷﻣﺮ ﺑﻨﻜﺎﺣﻬﻦ ﻋﻠﻰ اﻟﻨﻬﻲ ﻋﻦ ﻧﻜﺎﺡ اﻟﻴﺘﺎﻣﻰ ﻣﻊ ﺃﻧﻪ اﻟﻤﻘﺼﻮﺩ ﺑﺎﻟﺬاﺕ ﻣﺰﻳﺪ ﻟﻄﻒ ﻓﻲ اﺳﺘﻨﺰاﻟﻬﻢ ﻋﻦ ﺫﻟﻚ ﻓﺈﻥ اﻟﻨﻔﺲ ﻣﺠﺒﻮﻟﺔ ﻋﻠﻰ اﻟﺤﺮﺹ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻣﻨﻌﺖ ﻣﻨﻪ ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﻭﺻﻒ اﻟﻨﺴﺎء ﺑﺎﻟﻄﻴﺐ ﻋﻠﻰ اﻟﻮﺟﻪ اﻟﺬﻱ ﺃﺷﻴﺮ ﺇﻟﻴﻪ ﻓﻴﻪ ﻣﺒﺎﻟﻐﺔ ﻓﻲ اﻻﺳﺘﻤﺎﻟﺔ ﺇﻟﻴﻬﻦ ﻭاﻟﺘﺮﻏﻴﺐ ﻓﻴﻬﻦ ﻭﻛﻞ ﺫﻟﻚ ﻟﻻﻋﺘﻨﺎء ﺑﺼﺮﻓﻬﻢ ﻋﻦ ﻧﻜﺎﺡ اﻟﻴﺘﺎﻣﻰ"
ومن ثم يظل السياق التاريخي سببا في فهم القرآن وعلائقه ،فينبغي ألا يقرأ القرآن بمعزل عن سياقاته ، حتى لا يبتعد فهمنا عن إدراك كنه الأشياء وحقائقها ...
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
المصدر