صدر حديثا عن ( مركز تكوين ) كتاب مشترك لمجموعة من الباحثين بعنوان :
[ صناعة التفكير اللغوي ]
وقد كان لأخيكم الضعيف شرف المشاركة فيه بورقة بحثية بعنوان :
[ صناعة الاستدلال اللغوي ]
وقد كتب الشيخ إبراهيم السكران مراجعة للكتاب على هذا الرابط:
http://www.saaid.net/Doat/alsakran/67.htm
وهذه قطعة مختارة من البحث للاطلاع والإفادة من المشايخ الكرام والإخوة الفضلاء :
كيف يستنبط العلماء القوانين القياسية؟
يبدأ الأمر بالملاحظة، ثم بالتوجيه، ثم بالتماس الأمثلة، ثم بالتبويب، ثم بالتقعيد، ثم بالإلحاق.
وبيان ذلك فيما يلي:
أما الملاحظة فأن يرى العالم في النص أو في المنقول أو المسموع أمرا ما يَحتمِل أن يكون جاريا على طريقة معينة أو على منهج معين، ويحتمل أن لا يكون كذلك، إلا أن الأشبه بالعقل والحكمة أن يكون جاريا عليه، وقد تحصل الملاحظة بأن يرى نصين بينهما تشابه في وجه من الوجوه، فيظن أن لهذا التشابه أصلا.
وأما التوجيه فأن يقوى في نفس العالم أن المقصود بما لاحظه في النص السابق ذكره هو هذه الطريقة التي خطرت بباله، فيوجِّه النص المسموع ويحمله على هذه الوجهة.
وأما التماس الأمثلة فأن يتتبع العالم كلام العرب (إما تتبعا مقصودا بالبحث والسؤال، وإما تتبعا غير مقصود بأن تَرِدَ عليه الأمثلةُ في أثناء تحصيله لكلام العرب) لينظر في نماذج أخرى تفيد ما أفاد النص السابق.
وأما التبويب فأن يجد الكثير من هذه الأمثلة في كلام العرب حتى يخرج من الملاحظة الفردية إلى الأصل العام أو الباب المنفصل، فيستحق أن يفرد بباب لذلك.
وأما التقعيد، فأن يستخرج من هذه النماذج المستقراة قاعدةً كلية غيرَ مرتبطة بألفاظ بعينها، بحيث يمكن القياسُ عليها فيما بعد.
وأما الإلحاق فأن يستعمل ما لم يسمع من كلام العرب إلحاقا بما سمع منها في هذا الباب، وجاريا مجراه، وبهذا يخرج من كونه لحنا، ردا على من يزعم ذلك.
ولا أقصد أن كل المراحل السابقة يقوم بها عالم واحد، وإن كان هذا ممكنا، إلا أن الغالب أن يقوم بها عدة علماء متتابعين؛ لأن هذه المراحل غالبا تحتاج إلى مدة طويلة من البحث والنظر والفحص والاستقراء حتى تتم على وجهها الكامل، وبعد أن تتم يأتي باقي العلماء فيزيدونها بحثا ونظرا، فإما أن يؤيدوها ويقووها، وإما أن ينتقدوها ويستدركوا عليها، وبذلك تزداد القواعدُ تحريرا، وتزداد الأصول تقريرا.
مثال ذلك أن يسمع العالم أحدَ العرب يقول (أنت ضَيَاعٌ)، فيرى في هذه العبارة أن المبتدأ لا يوائم الخبر؛ لأن الأول شخص (جثة) والثاني معنى (مصدر)؛ فيظن أن في الجملة حذفا أو تقديرا.
ثم يبدأ في التفكير ليعرف الحذف المناسب أو التقدير المناسب، فيقول مثلا: التقدير (أنت صاحبُ ضياع).
ثم ينظر في كلام العرب ليبحث عن أمثلة أخرى تشابه هذا المثال، فيجد له نظائر كثيرة في كلام العرب؛ كقول الخنساء (فإنما هي إقبالٌ وإدبار) وقولهم (إنما أنت أيامٌ) وقوله تعالى {الحج أشهر} وغير ذلك، وكلها يصلح توجيهُه بمثل التقدير السابق أو نحوه.
ثم يضع لهذه الأمثلة بابا منفصلا لكثرة ما ورد عن العرب فيه، ويسميه باسم؛ كقوله مثلا (باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه).
ثم يبدأ في وضع التقعيد التأصيلي لهذا الباب؛ فيقرر أن (العرب تحذف المضاف وتقيم المضاف إليه مقامه).
ثم يلحق بهذه القاعدة ما أمكن من كلام الناس وإن لم يسمع عن العرب؛ كقولهم مثلا (فلان خراب متحرك) و(فلان عقلٌ مبُدع) و(القبورُ تفكُّر واعتبار) وهكذا.
وقل مثل ذلك في كثير من القواعد والأبواب التي يستنبطها العلماء من ملاحظات عابرة، ثم تكثر عليها النماذج والأمثلة حتى تصير بابا في العلم؛ كقولهم (العرب تكتفي بالسبب عن المسبب) وقولهم (العرب تحذف القولَ إذا فُهم) وقولهم (العرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان منه بسبب)، وغير ذلك.
وكقول سيبويه: (اعلم أن من كلامهم 1- اختلافَ اللفظين لاختلاف المعنيين، 2- واختلاف اللفظين والمعنى واحد، 3- واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين)، وقوله( ): (اعلم أنهم مما 4- يحذفون الكلم وإن كان أصله في الكلام غير ذلك، 5- ويحذفون ويعوضون، 6- ويستغنون بالشيء عن الشيء الذي أصله في كلامهم أن يستعمل، حتى يصير ساقطا).
ففي هذين النصين الجامعين من كلام سيبويه تجده يقرر كثيرا من الأصول والأبواب القياسية في كلام العرب في عبارة وجيزة مختصرة، لكن هذا لا يعني أنها لم تُبْنَ على استقراء طويل ونظر عميق؛ وهي:
1- أن يختلف اللفظ باختلاف المعنى، وهذا هو الأصل والغالب في كلام العرب
2- الترادف 3- الاشتراك 4- الحذف 5- العوض 6- الاستغناء