سلسلة (عالم ورأي)
تهدف هذه السلسلة إلى استجلاء رأي عالم من علمائنا حول قضية من القضايا، أو عقبة من العقبات التي تواجه أبناء العربية، أو طرح رؤية لاستنهاض الهمم وتحفيز العزائم. فإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر.
- الحلقة الحادية والعشرون: الأستاذ الدكتور محمد حسن عبد العزيز – عضو مجمعي اللغة العربية بالقاهرة ومكة المكرمة، ورأيه في حاجة اللغة العربية لمعجم لغوي تاريخي:
إن اللغة العربية ليست بدعًا بين اللغات العريقة في حاجتها إلى معجم تاريخي، بل هي أجدر، فهي أطول عمرًا وأوسع ساحة وأغنى تراثًا. وهي إحدى اللغات العالمية التي استخدمتها شعوب عديدة مختلفة الألوان والألسنة. وهي تحتفظ بتراث شعوب آثرتها على لغاتها القومية الحية: تكتب بها علومها وتعبر بها عن وجدانها.
وفي هذه الأيام التعسات تتعرض العربية لهجمة شرسة من أعدائها ومن بعض أهلها على حد سواء تبغي إتيانها من قواعدها، وتتهمها بالعجز والقصور عن التعبير عن حياتنا الإنسانية والفكرية، وتستبدل بها غيرها في مؤسساتنا التعليمية والعلمية.
واللغة هي عنوان الهوية وخزانة الماضي وإرهاصات المستقبل، وهي آخر المعاقل والثغور الباقية بعد أن أحكم الغرب سيطرته على حياتنا السياسية والاجتماعية والفكرية.
إن هذه الأيام المصيرية في حياة الأمة العربية أنسب الأيام لبداية هذا المشروع العلمي الجليل، لنؤرخ لماضينا التليد، ونحيي في وجداننا كل عوامل التحدي والنهوض.
وإذا كان الجيل الأول العظيم الذي أنشأ مجمع اللغة العربية بالقاهرة جعل المعجم التاريخي للغة العربية هدفًا من أهدافه، وشرع في وضعه واختط له منهجًا وجمع له جمعًا وحالت دون إنجازه حوائل-فنحن اليوم مطالبون باقتفاء أثره وإدراك غايته ولن نسلم-إن لم نفعل-من الحكم علينا بالتفريط في الأمانة التي حملناها ورضيناها في الحفاظ على العربية وجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون وبشؤون الحياة.
المعجم التاريخي خلق ابتدعه الأوربيون منذ قرن من الزمان. وهو عمل جليل نبيل جدير بكل أمة أن تحافظ على هويتها، وتحيي ماضيها، وتثري حاضرها ومستقبلها، وحقيق بها أن تنفق في سبيله غاية المستطاع ومنتهى الجهد والمال.
المعجم التاريخي للغة العربية سيكون مؤسسة علمية ينهض بتأليفها مئات من العلماء والأدباء واللغويين، وجامعة يلتحق بها مئات من الباحثين والمحررين والمساعدين.
المعجم التاريخي للغة العربية سيحدث ثورة في الدراسات التاريخية واللغوية، وسيكشف للباحثين عن كنوز كانت مدفونة وعن معارف لم تكن متاحة من قبل.
المعجم التاريخي للغة العربية ليس فحسب ديوانًا للعربية يضم بين دفتيه مفرداتها وأساليبها: مبانيها ومعانيها، ما استُخدم منها وما أُميت أو هُجر، ما حدث لها من تغير عبر الأزمان والأصقاع، بل سيكون كذا ديوانًا لتاريخ العرب والمسلمين، ديوانًا للأحداث الكبرى من فتوح وحروب وهجرات وكوارث، ديوانًا لحياتهم الاجتماعية بنظمها وبمظاهرها المادية والروحية، ديوانًا لأفكارهم ومشاعرهم، ديوانًا لعلومهم ومعارفهم وخبراتهم، ديوانًا لعلاقتهم بالشعوب الأخرى ولتأثيرها فيها وتأثرهم بها. ولا نبالغ إن قلنا: المعجم هو الوجه الآخر للحياة الإنسانية بكل تجلياتها المادية والروحية.
المصدر: المعجم التاريخي للغة العربية وثائق ونماذج، د. محمد حسن عبد العزيز– دار السلام-القاهرة-ط1-2008-ص 41، 42. (بتصرف)
إعداد: مصطفى يوسف