تأسيس علمي النحو والصرف وتدوين المعجمات العربية
من كتاب الحضارة الإسلامية أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين لها ولمحات من تأثيرها في سائر الأمم لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة
1- دوافع التأسيس والتدوين:
لما بدأت بوادر اللحن تدب إلى ألسنة بعض أبناء العرب؛ بسبب كثرة اختلاطهم وامتزاجهم بالأعاجم الذين دخلوا في الإسلام، نتيجة الدعوة الإسلامية التي واكبت الفتوح، هب نوابغ من العلماء ذوي العقل والرشد من المسلمين لضبط اللغة العربية في متن مفرداتها، وقواعد تصريفها وما تدل عليه اختلاف الصيغ من المعاني، ولضبط حركات أواخر كلماتها باختلاف أحوال مواقعها من الجملة العربية.
وكان الهدف من هذا العمل حفظ واقع هذه اللغة الرفيعة بين اللغات، بصورتها الكاملة التي كانت عليه إبان المدة التاريخية التي أُنزل فيها القرآن، وعاش فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين للناس ما نُزِّل إليهم، وغرضهم من هذا الحفظ حفظ القرآن كما أنزل، وحفظ السنة المبينة له، وأن يكون ضبط أصولها وقوانينها وسيلة لفهم معاني القرآن والسنة فهمًا صحيحًا، وإدراك دلالات نصوصهما إدراكًا دقيقًا سليمًا مهما تعاقبت العصور.
وقد ذكر المؤرخون عدة روايات تاريخية حول دوافع هذا التأسيس:
الرواية الأولى: جاء فيها أن "عمر بن الخطاب" مر على قوم يسيئون الرمي، فقرعهم على ذلك، فقالوا له: "نحن قوم متعلمين" فساءه اللحن الذي وقع في كلامهم؛ إذ لم يقولوا: نحن قوم متعلمون، أكثر مما ساءه خطؤهم في الرمي، وأعرض مغضبًا وقال: "ولله لخطؤكم في لسانكم أشد على من خطئكم في رميكم".
الرواية الثانية: أرسل "أبو موسى الأشعري" وهو والي البصرة إلى الخليفة عمر بن الخطاب كتابًا ذكر فيه كاتبه: "من أبو موسى الأشعري" فلحن في هذا، وكان ينبغي أن يكتب: "من أبي موسى".فكتب الخليفة "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه لأبي موسى: "عزمت عليك لما ضربت كاتبك سوطًا".
الرواية الثالثة: سمع أعرابي مؤذنًا يقول: "أشهد أن محمدًا رسولَ الله" ففتح لأم "رسول" بدل أن يضمها.
فقال هذا الأعرابي للمؤذن، ويحك يفعل ماذا؟
إن فتح اللام يجعل عبارة "رسول الله" صفة، وحينئذ تكون الجملة ناقصة لم يأت خبرها، فطلب الأعرابي الخبر بسليقته الأصلية، فقال له: ويحك يفعل ماذا؟
الرواية الرابعة: قدم أعرابي في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: من يقرئني شيئًا مما أنزل الله تعالى على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فأقرأه رجل من بداية سورة "براءة" حتى إذا وصل إلى قول الله تعالى فيها: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} فنطق الرجل المقرئ بها "ورسولِهِ" بكسر اللام بدل ضمها وهذا اللحن الفاحش يفسد المعنى إفسادًا كبيرًا؛ إذ يجعل الله بريئًا من رسوله، مع أن المراد أن الرسول بريء من المشركين، أيضًا، بمقتضى دلالة: "ورسولُهُ" في حالة ضم اللام.
فلما سمع الأعرابي من مقرئه ذلك، قال: أوقد برئ الله من رسوله؟ إن يكن الله برئ من رسوله فأنا أبرأ منه.
فبلغت مقالة الأعرابي أمير المؤمنين "عمر بن الخطاب" فدعاه فقال له: يا أعرابي أتبرأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقص عليه الأعرابي قصته، فقال عمر: ليس هذا يا أعربي، فقال: كيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال له عمر: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} برفع اللام.
فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ ممن برئ الله ورسوله منهم، فأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن لا يقرئ القرآن إلا متقن للغة العرب، وأمر أبا الأسود الدؤلي أن يضع ضوابط اللسان العربي، وهو "أبو الأسود ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل الدؤلي الكناني 1ق. هـ-69هـ" من أول واضعي علم النحو، وكان معدودًا من الفقهاء والأعيان والأمراء والشعراء، وهو تابعي.
الرواية الخامسة: جاء أبو الأسود الدؤلي إلى زياد بن أبيه "1-53هـ" وهو أمير البصرة فقال له:
"إني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم، وفسدت ألسنتها، أفتأذن لي أن أضع للعرب ما يعرفون به كلامهم؟ ".
فقال له زياد: لا تفعل.
ثم جاء رجل إلى زياد، فقال: أصلح الله الأمير، توفي أبانا، وترك بنونا، بهذا اللحن الفاحش، بدل توفي أبونا وترك بنين.
فقال زياد مستنكرًا لهذا اللحن الفاحش: توفي أبانا وترك بنونا؟!!
ثم أمر بأبي الأسود الدؤلي أن يأتيه، فلما جاءه قال له:
"ضع للناس ما كنت نهيتك عنه".
ففعل ذلك أبو الأسود.
الرواية السادسة: رُوي عن أبي الأسود الدؤلي أنه قال: دخلت على أمير المؤمنين "علي بن أبي طالب" رضي الله عنه، فوجدت في يده رقعة، فقلت: ما هذه يا أمير المؤمنين؟
فقال: إني تأملت كلام العرب، فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء "يعني الأعاجم" فأردت أن أضع شيئًا يرجعون إليه، ويعتمدون عليه، ثم ألقى إليَّ الرقعة وفيها:
"الكلام كله: اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبئ به، والحرف ما أفاد معنى".
وقال لي: أنح هذا النحو، وأضف إليه ما وقع إليك.
الرواية السابعة: روي أن أبا الأسود الدؤلي قالت له ابنته: ما أحسنُ السماءِ "برفع أحسن وجر السماء" فقال لها: نجومها، فقالت: إني لم أرد هذا،وإنما تعجبت من حسنها، فقال لها: إذن فقولي: ما أحسنَ السماءَ، افتحي فاك، وحينئذ وضع علم النحو.
أقول: مهما يكن أمر هذه الروايات فإن مجموعها يحدد السبب الذي دفع المسلمين إلى وضع العلوم الضابطة للسان العرب، ألا وهو حرصهم على صيانة كتاب الله القرآن وأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، من اللحن الذي يُفسد المعنى، ويَضيع به الدين، وذلك بعد تسرب اللحن إلى بعض أبناء العرب بسبب اختلاطهم بالأعاجم.
ومعظم الروايات تشير باهتمام بالغ إلى أبي الأسود ظالم بن عمرو الدؤلي الكناني، وقد كان من سادات التابعين، وكان عاقلًا حازمًا سكن البصرة في خلافة عمر، وولي إمارتها في خلافة علي، وكان من أعلم أهل عصره بكلام العرب، وقد أخذ العلم عنه كثيرون، فمنهم ابناه عطاء، وأبو حرب، ومنهم نصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر، وقد توفي بالبصرة في الطاعون الجارف سنة "69هـ".
ويؤكد دور أبي الأسود الدوؤلي في وضع علم النحو ما ذكره ابن النديم في الفهرس مما شاهده بعينه، فقد ذكر في معرض حديثه عن خزانة كتب أطلعه عليها أحد جامعي الكتب، أنه كان في جملة ما فيها قمطر1 كبير، فيه قرابة ثلاثمائة رطل جلود فلجان2، وصكاك، وقرطاس مصري، وورق صيني، وبينها أربعة أوراق، قال: أحسبها من ورق الصين، ترجمتها "أي: العنوان المكتوب عليها": هذه فيها كلام في الفاعل، والمفعول، عن أبي الأسود رحمه الله عليه بخط يحيى بن يعمر، وتحت هذا الخط بخط عتيق، هذا خط علان النحوي، وتحته خط النضر بن شميل.
يقول ابن النديم: ثم لما مات هذا فقدنا القمطر.
لهذه الدلائل ذكر كثير من أهل العلم أن أبا الأسود الدؤلي هو أول من تكلم في علم النحو.
- قال ابن قتيبة في المعارف، لدى حديثه عن أبي الأسود الدؤلي: "وهو أول من وضع العربية" أي: العلم الضابط للعربية.
- وقال ابن سلام الجمحي: "أول من أسس العربية، وفتح بابها، وأنهج سبيلها، ووضع قياسها، أبو الأسود الدؤلي".
أما تعليل تسمية العلم الذي اشتمل على قواعد اللغة العربية وضوابطها باسم "علم النحو" فقد ذكر أهل العلم فيه وجهين:
الوجه الول: أنه سمي "علم النحو" لقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأبي الأسود: أنح هذا النحو. لما دفع إليه الرقعة التي كتب فيها سيدنا علي: "الكلام كله: اسم، وفعل، وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبئ به، والحرف ما أفاد معنى".
الوجه الثاني: أنه سمي "علم النحو" لأنه أبا الأسود كان كلما وضع بابًا، عرضه على سيدنا علي رضي الله عنه، فكان يقول له: ما أحسن هذا النحو الذي نحوت.
والله أعلم.