قد يظن البعض أنَّه لا توجد لهجات في العصر الجاهلي أو عصر ما قبل الإسلام ، وخصوصاً من غير المختصِّينَ بالعربية وآدابها ، ولمْ يمنع شيوع اللغة الأدبية وقتذاك ظهور لهجات متعددة لأسبابٍ كثيرة ، منها : الاختلاط بين الأقوام العربية والأجنبية , ومنها : عزلة بعض القبائل العربية وانكفائها على نفسها ؛ لذا تولَّدَتْ وتكوَّنتْ هناك لهجات عديدة ، وصار من الصعوبة بمكان في بعض الأحيان نسبة تلك اللهجات إلى قبائلها , لأنَّهم كانوا لا يهتمُّونَ بها بالقدر الذي يحافظ عليها ، وفي الوقت نفسه لم يهملوها ذلك الإهمال الذي يمحوها أو يمنع تداولها , فبعضها معروفة قبائلها ، وبعضها مجهولة مختلطة ومتداخلة .
مثلاً : إنَّ بني ربيعة يلحقونَ بكاف المخاطبة شيناً في الوقف , وفي الوصل أحياناً , فيقولونَ : ( رأيتكش ، وعليكش ) , وبعضهم كانَ يلحقُ سيناً بدلَ الشين ، فيقولونَ : ( رأيتكس ، وعليكس ( ؛ وبنو تميم وبعض قيس وأسد ، يجعلون الهمزة عينا في بعض الحالات , فيلفظونَ : ( استعدى ) بدلاً من : ( استأدى ) , و( أعدى ) ، بدلاً من ( أدى ) ؛ وكانت هذيل , وبنو ثقيف تبدل الحاء عيناً في ( حتى ) ، فيقولونَ : ( عتى ) .
ومعظمُ هذه اللهجات كانَتْ تشيع في بعض القبائل الشمالية المضريَّة العدنانيَّة , أمَّا ما نجده من لهجات نسبها اللغويونَ إلى القحطانيينَ : ( التلتلة ) عند قضاعة وبراء ، فهم يكسرون تاء الفعل المضارع فيقولون : ( تِعلمون وتِكتبون وتِنجحون بكسر ) ؛ وكذا : ( العجعجة ) عند قضاعة , فهم يبدلونَ الياء جيماً ، فيقولونَ : ( تميمج ) في ( تميمي ) .
ونجدُ أنَّ مِن أهمِّ ما سجله اللغويون من فروقاتٍ بين التميميينَ والحجازيين , هو أنَّ التميميين يحقُّونَ الهمزة مثل : ( سأل يسأل سؤالاً ) ، والحجازيين يسهلونها أو يحذفونها تخفيفاً : ( سال يسل سوالاً ) ؛ وكان الحجازيون يجرونَ ( هَلُمَّ ) مجرى أسماء الأفعال ، مثل ( صهٍ أو مهٍ ) , فيلزمونها طريقاً واحداً في مخاطبة المفرد والمفردة والاثنينِ والاثنتينِ والجماعتينِ , فيقولونَ : ( هَلُمَّ يا رجل ) , ( هَلُمَّ يا امرأة ) , ( هَلُمَّ يا رجلان ) , ( هَلُمَّ يا امرأتان ) , ( هَلُمَّ يا رجال ) , و ( هَلُمَّ يا نساء ( ؛ أمَّا التميميونَ فيجرونها مجرَى الأفعال , فيقولونَ : ( هَلُمَّ ، هَلُمَّا ، هَلُمُّوا ، وَهَلُمَّنَّ ) ، وجاءَتْ ( هَلُمَّ ) في القران الكريم بلغة الحجازيينَ ، في قوله تعالى : (( والقائلينَ لإخوانهم هَلُمَّ إلينا )) .
وقال اللغويونَ : إنَّ اختلاف الفريقينِ يوجد في همس الحركات والجهر بها وحدها ؛ وكانَ الحجازيون يمدُّونَ الألف مثل : ( كلاب ) ويقصرها التميميونَ , فيقولون : ( كلب ) ؛ وكان الحجازيون يلفظون (خمسة عشرة ) بتسكينِ الشين وتميم تفتحها , ومنهم من يكسرها , ومنهم يثقلها ؛ ونـجـد الحجازيينَ في قراءة الشفع والـوتر بفتح الــواو في الـوتر , ويكـسرها التميميونَ .
واختلاف قراءَاتِ القران الكريم هو خير دليل على اختلاف اللهجات في الجاهليَّة ، فمثلا: قرأ الجمهور ( نظرة ) في قوله تعالى : (( فنظرة إلى ميسرة )) ، بكسر الظاء , وهذا على لغة قريش ؛ وقرأها على لغة تميم مجاهد والضحاك بسكون الظاء , وقرأ الحجازيونَ ( رضوان ) بكسر الراء في قوله تعالى : (( ورضوان من الله اكبر )) ، وقرأها التميميونَ والبكريونَ بضمها .
وقرأ الجمهور على لغة قريش ( كسالى ) بضم الكاف , في قوله تعالى : (( وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى )) ، وقرأها الأعرج بالكسر على لغة تميم , وأسد .
قال أحمد بن فارس : في كتابه ( الصحابي ) : إنَّ الاختلافات في لغات العرب من تكمن في أوجه متعدِّدة , منها : الاختلاف في الحركات ، والاختلاف في النمر , والتليين , وفي التقديم والتأخير , وفي الحذف والإثبات ، وفي الحرف الصحيح , وفي الإمالة والتفخيم , وفي التذكير والتأنيث , وفي الإعراب ؛ وإنَّ الاختلافات في نطق الكلمات أدَّتْ إلى ظهور كثير من المترادفات في العربية مثل : الذهب والعسجد , والغيث والمطر ، والقمح والحنطة والبُر ؛ قال الجاحظ : في كتابه ( البيان والتبيين ) : القمح لغة شامية , والحنطة لغة كوفية , والبُر لغة حجازية .
وهذا الترادف ليس مقتصرا على الأسماء , بل نجده في الأفعال أيضاً ، مثل : تقاتلوا وتحاربوا وتعاركوا , وإنَّ سببه هو اختلاف لهجات القبائل العربية في حذف بعض الحروف , أو إبدال بعضها ببعض ؛ والترادف في العربية كثير كثرة مفرطة ، واللغويينَ ذهبوا ليجمعُوا كلَّ ما وجده على السنة القوم , ثمَّ وضعوه المعجم العربي ، فراحوا يحصُونَ أسماءَ السيف مثلاً وقالوا أنَّها خمسون , كما أحصوا أسماء الأسد والفرس والبعير .
ولاحظنا في اللهجات الجاهلية أيضاً ( باب الأضداد ) , وهي كثيرة إذ نجد كلمة تستخدمها قبيلة بمعنى , ونجدها في قبيلة ثانية لا بمعنى مغاير له فحسب , بل بمعنى مضاد يناقضه ، مثل : ( جليل ) بمعنى عظيم ، وقد تأتي بمعنى حقير .
هذا ما استطعْتُ أنْ أبيِّنه أو أشرحه عن اختلاف اللهجات العربية في العصر الجاهلي ، والتي أعطاها اللغويونَ اهتماماً كبيراً رغم انتشار أو شيوع أشهرها وهي لغة قريش ، أمُّ عربيَّتنا الفصحى و أساسها الرصين
المصدر:
http://www.aldiyarlondon.com/2012-08...08-06-10-22-20