من أعلام اللغة المعاصرين
يستضيء هذا الرِّواقُ بأحد أعلام العربية المعاصرين وعلمائها الشاهدين على تاريخها، نجتني من سيرته رُطبًا جنيًّا، ونقتطف من محاورته أفكارًا ورؤًى تنير دروب السالكين مهادَ العربيةِ، وتضيء آفاق الباحثين عن لآلئها بين الأصداف، وتقدم جزءًا من حق هؤلاء العلماء علينا، وتُزْخِرُ المكتبة العربية بإشراقات من حياة هؤلاء السادة وآثارهم الساطعة وسِيَرِهم الناصعة، فهم الذين جَلَوا بكلامهم الأبصارَ الكَليلةَ، وشَحَذوا بمنطقهم الأذهانَ العَليلة، فنبَّهوا القلوبَ مِنْ رَقْدتها، ونقلوها مِن سوء عادتها، فداوَوها من العيِّ الفاضح، ونهجوا لها الطريق الواضح.
(15) أ.د محمد بن يعقوب تركستاني
[IMG][/IMG]
تتلألأ نجومُ اللغة في سماء العربية فتشِعُّ ضياءً وتتوهَّجُ إشراقًا فتُظهر لك كل جديد، والدكتور محمد تركستاني نجم في سماء العربية لغة وأدبًا، دائمًا يهديك جديده في خِلْعة من البهاء، ويأخذ بيديك إلى نظرته الوليدة في سلاسة وعذوبة وحجة ناصعة وبيان دامغ، حتى تصدر طريقته ونبغ فيها، وصارت سيرته مثلًا للعالم الرئيس الرَّيِّضِ في علمه وبابته، فأحببنا أن نأخذ منها بقبس نستضيء به في حوالك الليالي ، ونتلمس منها الهدى في بلوغ المعالي.
*تخرجه العلمي ومسيرته العملية:
تلقى الدكتور محمد يعقوب تركستاني تعليمه الابتدائي في المدرسة الفيصلية، والمتوسطة في مدرسة خالد بن الوليد ، والثانوي في المدرسة العزيزية بمكة المكرمة.
تخرج في كلية الشريعة في مكة المكرمة، بدرجة (البكالوريوس ) في اللغة العربية سنة 1391هـ بتقدير (ممتاز) وكان الأول على دفعته.
حصل على درجة (الماجستير) في فقه اللغة العربية من كلية الشريعة في مكة المكرمة في 12/3/1397هـ عن رسالته في (السيوطي وجهوده في الدراسات اللغوية) بتقدير (ممتاز) مع التوصية بطبع الرسالة على نفقة الجامعة.
حصل على درجة (الدكتوراه) في فقه اللغة العربية من كلية اللغة العربية في جامعة أم القرى في 12/11/1402هـ عن رسالته في (لغات طي: أصواتاً وبنيةً ونحواً ودلالة) بتقدير (ممتاز).
عين معيداً في كلية اللغة العربية في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، 13/9/1396هـ ثم محاضراً فيها في 19/3/1397هـ ثم أستاذاً مساعداً فيها في 29/12/1402هـ ثم أستاذاً مشاركاً فيها في 21/1/1413هـ ثم أستاذاّ فيها في 9/11/1418هـ.
*الكتب و البحوث العلمية المنشورة :
-فروق لغوية مغفول عنها في فصحانا المعاصرة، جامعة الملك سعود، 1437هـ-2016م.
-مخارج الحروف وصفاتها : لأبي الصبغ السماني الأشبيلي، المعروف بابن الطحان (توفي بعد 650) براج ،وخطيب، بيروت 1412هـ.
-كتاب تحصيل الهمزتين الواردتين في كتاب الله من كلمة أو كلمتين : لابن الطحان ، براج والخطيب ، بيروت 1412هـ.
-في أصول الكلمات : براج وخطيب ، بيروت 1412هـ.
-في مشكلة الخلط بين الضاد والظاء: دار البخاري ، المدينة المنورة 1415هـ.
-الجوهر الفرد في الكلام على أما بعد : لعبدالله بن علي بن سويدان الدمليجي (ت 1234هـ) : دار البخاري ، المدينة المنورة 1416هـ.
-غاية المراد في معرفة إخراج الضاد: لشمس الدين المقرئ المعروف بابن التجار (ت 870هـ) دار البخاري، المدينة المنورة 1416هـ.
-ياقوتة الصراط في تفسير غريب القرآن : لأبي عمر الزاهد ، المعروف بغلام ثعلب (ت345هـ) : دار البخاري، المدينة المنورة 1417هـ.
*الوظائف والمناصب:
-أعيرت خدماته من الجامعة الإسلامية إلى جامعة الملك عبدالعزيز لمدة ست سنوات، عضو هيئة التدريس في قسم اللغة العربية ، في كلية الآداب.
من أعماله الإدارية:
-رأس قسم التحقيق والنشر في مركز البحث العلمي في الجامعة الإسلامية.
-تولى أمانة المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية.
-عين مديراً لتحرير مجلة الجامعة الإسلامية.
-عين أميناً لمجلس الجامعة الإسلامية.
-عين عميداً لشؤون المكتبات بالجامعة الإسلامية.
-عين عميداً لكلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية.
-اختير عضوًا بمجمع اللغة العربية الافتراضي.
-اختير عضوًا بمجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية.
*الدكتور تركستاني وفكرة ملحق التراث:
الدكتور محمد يعقوب تركستاني صاحب أول ملحق عن التراث في صحيفة المدينة منذ أكثر من ثلاثين عاماً، إنه الأستاذ الدكتور محمد يعقوب الذي خدم القرآن الكريم والسنة المطهرة خدمة جليلة بإخلاص وتفان، وقد استفاد منه المعلمون والتربويون في المدارس، وطلاب الدراسات العليا والدكاترة في الجامعات في كثير من البحوث القيمة التي كانت تنشر في الملحق على مدار 20 عاما وأكثر.
وقد يسأل أحدهم ما هي فكرة ملحق التراث ومن أين نبعت؟ نبعت فكرة الملحق من أحد أبناء مكة وهو من تبنى تحقيقها في صحيفة المدينة والمداومة عليها منذ إنشائها، وفكرة الملحق هي محاولة مخلصة لتأكيد ضرورة اتصالنا بماضينا في بناء جيلنا الجديد ومستقبلنا ووضع ميراث الماضي في موضعه الصحيح من نهضتنا، واستمدادنا الأصالة والعمق منه، ومن الكتاب الذين كتبوا في هذا الملحق: حمد الجاسر وأحمد عبدالغفور عطار وأبوتراب الظاهري وأبوعبدالرحمن بن العقيل ومحمد علي البار وسليمان العايد وعبدالله العسيلان وأيمن سويد وعبدالغفور عبيد وعبدالله باقازي ومحمد محيسن وطه أبوكريشة وعبدالرحيم وخليل عمايرة ومحمود الطناحي وعبدالفتاح شلبي ومحمد عناني.
وقد كان الدكتور محمد يعقوب طوال هذه المدة إنسانا عاملا، لا يتكلم إلا كلاما مفيدا ويقابل الإساءة بالصبر والصمت، أضف إلى ذلك أنه كان يتعامل مع كتابه بالكلمة النافعة دون النظر إلى الأسماء والألقاب.
وتميز ملحق التراث أثناء إشرافه بتكريم الأحياء من علماء وأدباء وشعراء أمثال الشيخ عبدالله خياط والشيخ أحمد جمال والأستاذ أحمد باشميل والأستاذ محمد الشبل.
ويعتبر الدكتور محمد يعقوب مدرسة في الإعداد والإخراج والتنفيذ، حيث كان يتفقد الملحق من الألف إلى الياء ويضبط حروفه وكلماته ويسهر معه آخر كل أسبوع قبل إصدار العدد الأسبوعي. وهذا بعض ما أعرفه عن أخي الدكتور محمد يعقوب تركستاني..أسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا ومنه صالح الأعمال في الليل والنهار، بل في كل الأحوال إنه سميع مجيب الدعوات.
*رائد التراث وعالم اللغة د. محمد يعقوب تركستاني:
أما علمه في مجال اللغة وكناشته فيعترف الجميع بعلو كعبه في علم اللغة فهو عالم كبير متبتل في محراب اللغة يحرص عليها ويبذل نفسه في رفعتها
يقول الأديب الدكتور عاصم حمدان علي:
"عندما قدمت مكة في مطلع التسعينيات الهجرية دارساً، كان عدد من أبناء هذا الوطن المعطاء قد سبقنا في التحصيل والدرس العلمي، وكان من بين هؤلاء هذا الأخ الكريم الذي يحلُّ ضيفاً على هذا الملحق الأغر وأعني به الزميل - عالم اللغة والمتبحر في فقهها - الدكتور محمد يعقوب تركستاني، وكان مثل زملائه الكرام الدكاترة عبد الله باقازي ومحمد العمري، ومحمد العثيمين، والفقيد الشريف عبد الله الحسيني البركاتي - رحمه الله - كانوا وغيرهم قد التحقوا بقسم الدراسات العليا العربية دارسين، ولقد سبقت كلية الشريعة - جامعة أم القرى لاحقاً - رصيفاتها في افتتاح أقسام الدراسات العليا في علوم الشريعة وحقول الأدب واللغة وسواها مما سوف يدوِّنه التاريخ - يوماً - وإنما أردنا أن نلمّ بشيء من هذا التاريخ توطئة أو تمهيداً للحديث عن ضيف جريدة المدينة - اليوم - وابنها البار منذ ما يقرب من ثلاثة عقود ونيف، كان فيها كاتباً بصفحة الأدب التي كان يحررها المرحوم سباعي عثمان، ثم سبَّاقاً لتقديم أول ملحق متخصص في التراث، وصدر عن هذه الصحيفة العريقة عام: 1396هـ إلا أنه سبق تقديمه في صفحة واحدة عام 1394هـ، ثم في صفحتين 1395هـ واكتمل في 96هـ.
ما زلت أتذكر وقفاتي الخاطفة مع الزميل الكريم الدكتور عبد الله باقازي والذي عرف في بداية حياته الأدبية بكتابة القصة مثل رصفاء له، أتذكر منهم: أنور حسن عبد المجيد الجبرتي، وسليمان سندي، وعلي محمد حسون، وقد شهدت صفحة الأدب التي أشرت إلى دور الرائد سباعي عثمان في تحريرها واحتضان الجيل الجديد - آنذاك - والاهتمام بإبداعاتهم، ومن الإنصاف للتاريخ أن أذكر بأن الزميلين الدكتور الأديب طاهر سالم تونسي، والأستاذ فاروق باسلامة قد كانا سباقين للكتابة الأدبية في عدد من الصحف... في واحدة من تلك الوقفات قال لي الدكتور باقازي: (زميلنا محمد يعقوب يبذل جهداً مضنياً في إخراج صفحة التراث مقابل مكافأة زهيدة) ثم يشاء الله أن أرتبط بعلاقة أوثق مع (أبي زلفي) وأصبحت من كتاب الملحق وأزعم أنني أعرف من شجون هذا الملحق وشؤونه أكثر مما يعرفه غيري، فلقد كان الدكتور التركستاني يخصص جزءاً كبيراً من وقته حتى يخرج الملحق على الصورة التي يرضى عنها وكان عزيزنا يهتم بالنقطة والفاصلة كاهتمامه بالكلمة والعبارة ويشرف على الإخراج والصف وسواهما من ضروب التقنية الصحافية ولا يداعب الكرى أجفانه حتى تتم ولادة الملحق من بين ماكينات الطباعة في المقر القديم لصحيفة المدينة بطريق مكة، ولما كان زميلنا ممن لم يتملكوا مركبة إلا بعد أن قطعوا شوطاً كبيراً من حياتهم العملية - وليس مما يدخل في باب المسكوت عندما أروي لجيل اليوم بأنني - أي - العبد الفقير إلى الله - لم أجلس على مقود سيارة خاصة إلا بعد حصولي على درجة الدكتوراه وعودتي من بريطانيا - وأنه لشظف العيش الذي عشناه ولقمة العيش التي ارتطمنا في سبيلها بكثير من العقبات، إلا أننا تخطيناها بصبر وعزيمة وقبل ذلك وبعده كان الملاذ هو الإيمان الفطري بخالق هذا الكون، وأن من شهد ومضة النور وتجليات اللطف عند الحطيم وزمزم في مكة، والروضة والمسجد والمثوى الطاهر في طيبة الطيبة - لا بد أن يكون إيمانه فطرياً وأننا لراضون في هذا المقام مقولة ابن عطاء الله الشكنوري صاحب الحكم ولطائف المنن، (لو علم السلاطين ما نحن فيه من لذة لجالدونا عليها بالسيوف) أعود للقول بأن الأخ التركستاني كان يضطر للذهاب إلى الموقف القديم في جدة ليجد مقعداً له في سيارة أجرة ولربما لم يصل إلى داره في الجودرية إلا مع تباشير الفجر بميلاد يوم جديد.
لم تنقطع صلتي بالدكتور التركستاني أثناء سني الدراسة بالغرب وأذكر أنه طلب مني تزويده برسالة علمية قدمها أحد الباحثين الغربيين عن الإمام السيوطي، وأنني لأتذكر وقوفي أمام مكتبة في (برنسس ستريت بمدينة أدنبرة الأسكتلندية) سائلاً عن الكتاب وزخات المطر تنهمر على جاكيت أسود كنت أرتديه، ولقد كانت القلعة الشهيرة تنتصب أمام عيني، وعين مني تسترق النظر لجمال في تلك التلال، وجمال آخر تكاد تتخطفه الأيدي وتسير به إلى بحيرات لوخ ليموند حيث الهدوء الذي لا نظير له والذي قال لي زميلنا الدكتور عبد الرزاق سلطان والذي كان يحضر للدراسة في فن تقدمت به - جامعة أدنبرة - آنذاك - على جامعات أخرى وهو الكيمياء الحيوية، لقد فتح نافذة شقته في ذلك البناء الحجري الجديد في ويليام ستريت، ثم أوصدها ليبتسم كعادته ويقول: إنك ستفتقد - يا عاصم - هذا الهدوء، وسوف تحن إليه، واليوم بعد ربع قرن من الزمن أعود لتذكر أيام خوال في تلك البلاد النائية لأقول شيئاً عن رجل التراث (التركستاني) فيتعانق المشهدان عندي في كل واحد.
وعدت من بعثتي الدراسية مع نهاية عام 1406هـ، ووجدت الفيروزآبادي أمامي في قسم اللغة العربية، ولهذا اللقب قصة اختصرها في أن أستاذاً معروفاً كان يعمل في قسم اللغة العربية بمكة المكرمة وهو الدكتور محسن العبيدي - أدرك بثاقب نظره تعمق هذا الشاب - آنذاك - في لغة القرآن - حيث نالته حظوة علامة اللغة ومادح العصر فضيلة السيد محمد أمين كتبي عن طريق زميله الإنسان المهذب السيد زيد كتبي أدرك العبيدي ما ينتظر هذا الشاب من مستقبل علمي مشرف فأطلق عليه اسم أحد أشهر مؤلفي القواميس العربية، فاعتز الشاب بهذا اللقب وأصبح يدون مقالاته به، ولم تكن الرياح مواتية في قسم جدة - آنذاك - ويؤسفني أن الدكتور عبد الله الغذامي في حكايته للحداثة جعل نفسه ضحية وأنه الوحيد الذي غبن، مع أن الذين غبنوا في عهده وعهد غيره كانوا كثراً وكان الدكتور التركستاني واحداً منهم، ولعل أبا زلفى أدرك مع الزمن من هم أولئك الذين آزروه، ومن الذين في خفاء أو علانية قد خذلوه.
بقي أن أقول إن قلة في الساحة من يعرفون أن أخانا التركستاني كان يكتب شعراً رقيقاً في مطلع حياته، وأن شاعرنا الكبير السيد محمد حسن فقي كان معجباً بتلك الإبداعات الشعرية، وأثمرت العلاقة الوثيقة بين الرائد الفقي - متع الله بأيامه - وبين رائد التراث عن بحث قيم كتبه الدكتور التركستاني عن شاعرية الفقي وإخاله بحث التخرج في قسم اللغة العربية، تلك نبذة يسيرة عن سيرة مباركة باعثها الوفاء لأيام خوالٍ في الشامية والجودرية".