سلسلة (عالم ورأي)
تهدف هذه السلسلة إلى استجلاء رأي عالم من علمائنا حول قضية من القضايا، أو عقبة من العقبات التي تواجه أبناء العربية، أو طرح رؤية لاستنهاض الهمم وتحفيز العزائم. فإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر.

الحلقة الثامنة:
الدكتورمحمد فتوح أحمد- أستاذ الدراسات الأدبية والنقدية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، وعضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة ورأيه في تعريب الاستعراب:
نعني بتعريب الاستعراب ذلك الجهد العلمي الذي نهضت به طائفة من العرب المهاجرين إلى الأقطار الأوربية استوطنت هذه الأقطار، وأسهمت في حمل الثقافة العربية إلى أرجائها، وبفضل عطائها العلمي الدءوب تخرجت أجيال من المستعربين الأوربيين استطاعت بدورها رد الدين إلى الثقافة العربية، بحكم ما ترجموه ، وحققوه ، ونشروه ، من ذخائر التراث العربي ومخطوطاته وكنوزه التي لا ينضب لها مدد. ومثل هذه الزاوية من زوايا النظر تبرز قيمة الإسهام العربي في تأسيس الاستعراب الحديث ، كما تجلو ذلك التفاعل الحضاري بين الثقافات التي تهب بقدر ما تأخذ ، و تعطي بيمينها ما قد تسترد بشمالها ، و هي الحقيقة التي تبرهن على إنسانية المعرفة وعالمية العقل البشري.
ومصداق ذلك – إن كنا بحاجة إلى برهان- فيما يمثله لنا الاستعراب في أوروبا الشرقية، وفي روسيا على وجه الخصوص، فالاستعراب الروسي لم يتشكل مدرسة مستقلة إلا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ولكنه مع العقود الخاتمة في هذا القرن أنجب كوكبة من العلماء الذين احتلوا مكانة مرموقة بين مستعربي العالم ، وخاصة بعد إدراج تدريس اللغات الشرقية، وفي مقدمتها العربية، ضمن برامج الدراسة الجامعية، ومن يومها بدأت تتأسس أقسام للغات الشرقية في مدن روسيا المختلفة ، وعلى رأسها مدينة بطرسبورج.
غير أن مطالع القرن العشرين لا تلبث أن تشهد مرحلة جديدة في تطور الاستشراق الروسى بعامة والدراسات العربية بصفة خاصة؛ فبينما كانت المجالات الرئيسية للغة والأدب العربي تتركز في مدن بطرسبرج وموسكو وقازان، إذ بها من نهاية العقد الثاني من هذا القرن تمتد بحيث تشمل كثيرًا من المعاهد الدراسية العليا في الجمهوريات غير الروسية. ولهذه الحقيقة الأخيرة أهمية خاصة؛ لأن ثمة صلات حميمة تاريخية وتراثية تربط بين الشعوب العربية وشعوب آسيا الوسطي التي خضعت للسلطة السوفيتية منذ زمن ليس بالبعيد، فمعظم هذه الشعوب يدين بالإسلام، وهم ينتمون حضارياً إلى التراث الإسلامي، ولهم في تاريخه مشاركة وفي ثقافته نصيب. وقد كشفت البحوث الإثنوجرافية والأنثروبولوجية الحديثة عن أن بعض جماعات متفرقة من هذه الشعوب يناهز عددها الأربعين ألفا مازالت تتحدث اللغة العربية وتستخدمها في شتى مجالات الحياة اليومية، وكأن هذه الجماعات جزيرة لغوية معزولة وسط محيط مختلف من اللغات واللهجات المحلية.
وتتضاعف الأهمية التاريخية للجهود التى يبذلها علماء الاستشراق في هذه المناطق التى يمكن اعتبارها حقولاً بكرًا للدراسات العربية، إذا نظرنا إلى هذا التراث الضخم من المخطوطات الشرقية التى تحفل بها متاحف ومكتبات "طشقند" و"باكو" و "تبليسي" وغيرها من عواصم ومدن جمهوريات آسيا الوسطي، وهو تراث تفصح عن قيمته وخصوبته وثرائه تلك الحقيقة البسيطة، وهي أن قسم المحفوظات الشرقية في مكتبة "طشقند" وحدها يضم الأن قرابة خمسة عشر ألف مجلد، معظمها باللغتين العربية والفارسية، وترجع إلى عهود ازدهار الثقافة الإسلامية والعلاقات الحضارية التقليدية بين الشرق العربي ودول آسيا الوسطي الإسلامية.
إن هذا السجل الحافل من المخطوطات الأثرية جزء من الرصيد التاريخي للثقافة الإسلامية، وهو –أيضًا- قطعة غالية من وجودنا الفكري لا يمكن الاستهانة بها أو التقليل من شأنها. وبعد الحرب العالمية الثانية توفرت على بحث هذه المخطوطات وتصنيفها وترجمتها جماعة من المستشرقين بإشراف الأستاذ "سيمينوف" ، ولكن نتيجة هذا الجهد لم تتجاوز حتى الآن وصف نحو من ألفين وسبعمائة مخطوط في الأدب والتاريخ والطب والجغرافيا والفلسفة، كما لم تتعد ترجمة بعض أجزاء من كتاب "القانون فى الطب" "لابن سينا"، وعدد من مؤلفات "الخوارزمي" و "البيروني"، اللذين ينظر إليهما باعتبارهما ممثلين لفكر آسيا الوسطي في فترة من أزهى فتراتها العلمية. وإذا كنا نحن من جانبنا لم نستطيع حتى الآن –لتقصير في إدراك قيمة هذا التراث أو لقصور في وسائلنا المادية- الاطلاع على تلك المخطوطات والحصول منها على ما ينبغي الحصول عليه، فلا أقل من أن نحاول معرفة جهود الآخرين في هذا الصدد وتقويمها، والإفادة منها، حتى يتيسر لنا التعامل المباشر مع هذا التراث عن طريق تكوين فرق علمية ترحل إلى مواطنه الأصلية للاطلاع عليه وتصويره، ثم تحقيقه ودراسته دراسة منهجية منظمة.
- 2 -
ومن المفارقات الجديرة بالملاحظة أن هذه الزاوية الحديثة من زوايا الاستشراق الأوروبي نهضت فى الأصل على مشاركة جادة من قبل بعض العلماء العرب الذين ارتحلوا إلى روسيا في القرن الماضي وقاموا بتدريس اللغة العربية وآدابها فى جامعات هذه البلاد ومعاهدها، وقد عاش هؤلاء العلماء ردحًا طويلاً من الزمن في هذه المنطقة أتيح لهم خلاله معرفة لغة مواطنيها وطبائعهم وعادتهم وتقاليدهم، وكان لهم من الكتب والمحاضرات والنشاط العلمي بعامة ما أهلهم لأن يكونوا بين الطلائع الأولي من رجال الدراسات الشرقية الحديثة.
وقد كان على رأس هؤلاء العلماء رجل مازال المستشرقون الروس يعتبرونه أبًا روحيًا لعلوم العربية في بلادهم، وهو الشيخ محمد عياد الطنطاوي (1810-1861) الذي هاجر من مصر إلى "بطرسبرج"، حيث عمل أستاذًا للدراسات العربية بجامعتها. وقد ظلت رحلة هذا الشيخ وطبيعتها يكتنفهما الغموض حتى أتيح لقطب الإستشراق الحديث أغناطيوس يوليا نوفيتش كراتشكوفسكي أن يكتشف مخطوطة كتاب وضعه الشيخ سنة 1850م بعنوان "تحفة الأذكيا بأخبار بلاد الروسيا"، وأهداه إلى الخليفة العثماني السلطان عبدالمجيد، وفيه يتحدث المؤلف عن رحلته بطريق البحر من الإسكندرية إلى "أوديسا" ، ثم رحلته من "أوديسا" ومشاهداته في "نوفجود" و "كييف" و "بطرسبرج"، كما يتحدث عن تاريخ هذه البلاد وعادات أهلها وتقاليدهم في الزواج والتعميد والوفاة، ونصيبهم من التقدم في العلوم والفنون والآداب، مختتماً هذا جميعه بتلك العبارة التقليدية : "على يد مصنفه الفقير محمد عياد الطنطاوي المصري"، وهى خاتمة تدل على أن الشيخ رغم إقامته الطويلة في هذه البلاد البعيدة وانقطاعه عن ذويه وأحبابه، لم ينس وطنه الأم "مصر"، فظل يمهر كتبه ومقالاته بما يشير إلى اعتزازه بهذه النسبة وارتباطه الحميم بها (1).
وعلى ذكر إسهام المهاجرين العرب في حركة الاستعراب الحديث لا يمكن أن نغفل الإشارة إلى أول امرأة عربية لفتت انظار الجميع إليها حين تصدت للتدريس بجامعة "لينينجراد" (بطرسبورج حالياً) ومعاهدها، ونعنى بها "كلثوم نصر عودة" الفلسطينية الاصل، فعلى يديها نشأت أجيال كاملة من علماء العربية في الاتحاد السوفيتي السابق، وبفضل جهودها صدرت بعض الدراسات المهمة لنماذج منتخبة من الأدب العربي الحديث، حيث نلمح –ربما لأول مرة- تناولا علميًا منظمًا لمقتطفات من أدب الرعيل الأول، وخاصة أدب الصحافة عند أديب إسحاق، وأدب السياسة عند عبد الرحمن الكوكبي، وجذاذات من نتاج أمين الريحاني وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ومحمود تيمور وسواهم من أدباء العربية ورواد ثقافتها.
بيد أن دراسة الأدب العربي على أساس "منتخبات" مقتطفة من هنا وهناك لم تكن كافية لإلقاء الضوء على التطورات المهمة التى جدّت في حقل هذا الأدب منذ بدايات القرن التاسع عشر، فضلاً عن أن هذه المنتخبات كان يتم جمعها أحيانًا بطريقة تلقائية وفي إطار المادة المتاحة فعلاً أمام الدارسين، وهي مادة لم تكن من الاتساع والتنوع بالدرجة الكافية، بالإضافة إلى أن وسائل علاجها لم تتجاوز حدود المنهج المدرسي التقليدي والشروح اللغوية الضيقة، دون محاولة لربط النص ببيئته والمناخ الإبداعي الذي كتب فيه.