سلسلة (عالم ورأي)
تهدف هذه السلسلة إلى استجلاء رأي عالم من علمائنا حول قضية من القضايا، أو عقبة من العقبات التي تواجه أبناء العربية، أو طرح رؤية لاستنهاض الهمم وتحفيز العزائم. فإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر.
الحلقة الثامنة والثلاثون: الدكتور عبد الهادي التازي – عميد المجمعيين العرب (يرحمه الله) – ورأيه في طريقة تعريب العلوم عند الأقدمين.
إن القدماء كانوا في منهجهم لتعريب العلوم يسيرون وأمامهم هدفان اثنان: الهدف الأول التعريب كلما أمكنهم ذلك، فإن تعذر تمسكوا بالمصطلحات كما هي. الهدف الثاني: ينشأ عن الأول ويتعلق الأمر بتعجيل الفائدة ما أمكن ذلك في انتظار أن نتوفر على من يُعرّب تعريبًا صحيحًا دقيقًا.
وهكذا فلم يكن التعريب هدفًا يقوم على محاربة لغة من اللغات أو حضارة من الحضارات، ولكنه كان بدافع الحفاظ على مدّ لغتنا الوطنية بالقدر الذي لا يسبب ضعفًا أو نقصًا في زادنا العلمي، وبفضل تضلع علمائنا الأوائل وتمكنهم من اللغات الأخرى أمكنهم أن يقدموا لنا تآليف كانت قمة فيما خلَّفوه لتراث الإنسانية جمعاء: أمثال ابن الجزَّار وابن البيطار والإدريسي لم يكونوا إطلاقًا يكتفون بلغةٍ واحدة لإثراء معلوماتهم، ولكنهم كانوا يقتحمون اللغات الأخرى اقتحامًا ظهر فيما كتبوه وما دونوه...
لا ننسى أننا كنا نجد في الأندلس مدارس تضم في الوقت الواحد والمكان الواحد متعلمين من الملل الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، وأن هذه المدارس استمرت تعمل إلى سقوط مدينة مرسية. وقد ذكر ابن الخطيب في الإحاطة أنه عام (553هـ = 1158م) كان في بياسه (BAEIA) علم غرناطي يُدعى عبد الله بن سهل كان يحضر دروسه جمع كبير من المسلمين والنصارى واليهود، وورد في "نفح الطيب" للمقري في ترجمة القرموطيي المرسي أنه كان من أعرف أهل الأندلس بالعلوم القديمة: الهندسة والمنطق والطب والموسيقى. وكان يُقرئ الأمم بألسنتهم فنونهم التي يرغبون فيها، ولما تعب طاغية الروم على مرسيه عام (664هـ=1266م) عرف له حقه وبنى له مدرسة يقرئ فيها المسلمين والنصارى واليهود...
أريد أن أستخلص من كل هذا أن مبدأ تعريب العلوم مبدأ مقدس لا يحتمل الجدال ولكنا إذا ما تعذر علينا ذلك التعريب إما لنقص في أطرنا أو ضعف في معلمينا، هنا، سنكون مضطرين – ومن غير أن يتملكنا أي شعور بمركب نقص – إلى تناول العلوم بلغات أخرى.
المصدر: مجلة مجمع اللغة العربية – الجزء 78، ص 54 ،55.
إعداد: مصطفى يوسف