يكتسب البحث في نشأة الكتابة العربية ومصدرها قيمته وأهميته البالغة من أن معرفة أصل الكتابة العربية ومصدرها الأصلي يساعد في تفسير كثير من المشكلات التي تواجه الكتابة العربية إذ إن أكثر هذه المشكلات ما هي إلا مورثات ورثتها الكتابة العربية عن الأصل الذي أخذت منه([i]) ولا غرابة في ذلك فمن أشبه أباه فما ظلم، كذلك يفيد البحث في نشأة الكتابة العربية في معرفة تطور رموز الكتابة منذ الأصل الذي أخذت عنه إلى ما يكتب به الناس اليوم وهذا التطور يفيد في تفسير بعض مشكلات الكتابة كما في مشكلة تشابه صور الحروف ، وتعدد صور الحرف الواحد .
كذلك من فوائد دراسة أصل الكتابة العربية تفسير كثير من ظواهر الرسم المصحفي فأكثره ورثته الكتابة العربية عن مصدرها الأصلي ، كذلك تفيد هذه الدراسة في معرفة تاريخ رموز الأصوات الصائتة ، كذلك معرفة تاريخ نقط الحروف إلى غير ذلك مما تعالجه هذه الدراسة.
ومع هذه الثمرات وتلك الفوائد لدراسة أصل الكتابة العربية إلا أن طريق دراسة هذا الأصل طريق تعتوره بعض الصعوبات لاسيما إذا ما علم أن مصدر الكتابة العربية من الموضوعات التي كثرت فيها الأقوال واختلف فيها الآراء، وكان الدافع وراء هذا الاختلاف قلة النقوش التي تحمل تفسير هذا المصدر يضاف إلى ذلك أن تلك النقوش (القليلة) قد تم العثور عليها مؤخراً وعليه فقد تأخرت دراسة هذه النقوش مما دفع إلى اختلاف الآراء في هذا المصدر مصدر الكتابة العربية وقد أخذت الآراء صفة النظريات ومن ثم فقد عبر عنها بالنظريات لذلك للباحث أن يسأل عن هذه النظريات وعن أدلة كل نظرية وموقف البحث العلمي منها؟ فيما يأتي أحاول التعرف على كل نظرية مع أدلتها وبيان موقف البحث العلمي منها.
1-نظرية التوقيف:
يتلخص مفهوم هذه النظرية في أن الكتابة والخط وحي من الله- عز وجل- فقد أنزل الحق ـ سبحانه وتعالى ـ فيما أنزل ـ تلك الطريقة، التي يعبر بها الإنسان بواسطة الخط أو الحروف وأوقف المولى عبادة على ذلك([ii]).
يقول أصحاب هذه الطريقة "روى عن كعب الأحبار أنه قال: أول من كتب الكتاب العبري والسرياني وسائر الكتب آدم ـ r ـ قبل موته بثلثمائة سنة كتبها من طين ثم طبخه فلما أغرق الله ـ عز وجل ـ الأرض أيام نوح ـ عليه السلام ـ بقي ذلك فأصاب كل منه كتابهم وبقي الكتاب العربي إلى أن خص الله به إسماعيل([iii]) ـ عليه السلام ـ وقالوا أيضاً: "أول من وضع الخط ـ آدم ـ عليه السلام ـ كتبه من طين وطبخه ليبقى بعد الطوفان وقيل إدريس([iv])".
ثم يوضح هؤلاء مصدر الكتابة بالنسبة لآدم فيقولون: "والذي نقول فيه: إن الخط توقيف وذلك لظاهر قوله تعالى: " الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ " وقوله تعالى: "ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ" وإذا كان كذا فليس ببعيد أن يوقف آدم ـ عليه السلام ـ أو غيره من الأنبياء ـ عليهم السلام ـ على الكتاب([v]).
واستدل القائلون بهذه النظرية بعدة أدلة منها:
أولاً : قوله تعالى ـ: " الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ"
ثانياً: قوله تعالى: " ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ"
ثالثاً: استدلوا أيضاً بما روى عن أبي ذر الغفاري ـ t ـ أنه قال: سألت رسول الله ـ r ـ فقلت: يا رسول الله كل نبي مرسل بما يرسل؟ قال: بكتاب منزل قلت: يا رسول الله أي كتاب أنزل على آدم؟ قال: أ. ب. ت. ث . ج. إلى آخره فقلت يا رسول الله كم حرف؟ قال: تسع وعشرون، قلت: يا رسول الله عددت ثمانية وعشرين فغضب رسول الله r حتى احمرت عيناه ثم قال: يا أبا ذر والذي بعثني بالحق نبياً ما أنزل الله تعالى على آدم إلا تسعة وعشرين حرفاً قلت: يا رسول الله فيها ألف لام فقال ـ عليه السلام ـ لام ألف حرف واحد أنزله على آدم في صحيفة واحدة ومعه سبعون ألف ملك من خالف لام ألف فقد كفر بما أنزل على آدم ومن يعد لام ألف فهو برئ مني وأنا بريء منه ومن لم يؤمن بالحروف وهي تسعة وعشرين حرفاً لا يخرج من النار أبداً مكانه([vi]).
رابعاً: استدلوا بما أخرجه ابن اشته من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس ـ t ـ قال: أول كتاب أنزله الله من السماء أبو جاد([vii]).
خامساً: أخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن أبي ذر ـ t عنه قال: إن النبي r قال: أول من خط القلم إدريس عليه السلام([viii]).
هذه هي الأدلة التي ساقها أصحاب هذه النظرية للاستدلال على رأيهم فما موقف البحث العلمي من هذه النظرية وأدلتها؟.
مع أن معظم الإخباريين والرواة العرب أورد هذا الرأي في نشأة الكتابة العربية إلا أنه رأي لا يقوم على دليل مادي واحد. لذلك وصف بعضهم موقف ابن فارس حامل لواء هذا الرأي بأنه موقف غريب([ix]).
ويضاف إلى عدم وجود أدلة مادية تؤيد هذه النظرية أن الأدلة التي ساقوها للاستدلال لرأيهم أدلة يتطرق إليها الاحتمال وبالتالي يسقط بها الاستدلال، فمثلاً قول الله ـ تعالى: "الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" يحتمل أن يكون الإنسان جنس الإنسان عموماً، ومن ناحية أخرى إذا صح أن الإنسان المراد في الآية هو آدم عليه السلام فما هو القلم الذي كتب به وهل تجزم بأنه القلم العربي ولم يحدثنا القرآن ـ وهو أصدق مصدر ـ عن ذلك بأية صريحة([x]).
كما أن ابن النديم يستبعد ما جاء به كعب الأحبار وهو أحد مصادر هذا الرأي ويبرأ إلى الله منه([xi]) يقول ابن النديم: "وقال كعب وأنا أبرأ إلى الله من قوله إن أول من وضع الكتابة العربية والفارسية وغيرها من الكتابات آدم عليه السلام وضع ذلك قبل موته بثلاثمائة سنة في الطين وطبخه فلم أصاب الأرض الطوفان سلم فوجد كل قوم كتاباتهم تعلم فكتبوا بها([xii])"
ويذهب بعض الدارسين إلى أن هذا الرأي ـ القائل بالتوقيف ـ قد وضع لتفسير الآيات القرآنية التي يستدل بها القائلون بهذا الرأي " الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ" " ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ" وضع للتوفيق بين هذه الآيات وبين النظرية العربية المشهورة التي تقول بأن إسماعيل ـ عليه السلام ـ هو أبو العرب المستعربة وأنه أول من تعلم العربية التي تعلمها من العرب المتعربة لذلك قالوا بأن الله قد علم آدم ـ عليه السلام ـ الكتابة فكتب الكتب كلها قبل موته بثلاثمائة سنة فلما كان الطوفان ... إلخ الرواية التي تذكر أن إسماعيل ـ عليه السلام ـ وجد الكتابة العربية فكتبها وتعلمتها منه العرب المستعربة ولما لا يكون إسماعيل ـ عليه السلام ـ هو أول من كتب الكتابة العربية وهو أول من تكلم العربية([xiii]).
ويضم الباحث رأيه إلى الذين لا يعتمدون هذه النظرية في تفسير أصل الكتابة العربية نظراً لتلك النقود التي وجهت لها والتي تضعف من صحتها إضافة إلى أن الأحاديث التي ساقوها للاستدلال على هذه النظرية غير قطعية الثبوت بل إن بعضها وصل إلى درجة الوضع كما في حديث أبي ذر الذي يزعمون فيه أنه سأل الرسول r عن الكتاب الذي أنزل على آدم ـ عليه السلام ـ ولو افترض أن هذه الأحاديث صحيحة فإنها "تكتفي ببيان مصدر الكتابة الأولى دون أن تبين لنا صفتها أو هيئتها وكيفية انتقالها من المصدر الذي تلقاها أولاً إلى غيره من أولئك الذي استعملوها وأقاموا عليها نظم حياتهم العلمية والاجتماعية([xiv]).
2- النظرية الحميرية
يتلخص مفهوم هذه النظرية في القول بأن الكتابة العربية ترجع إلى مصدر بشري هو الخط "المسند" الذي كانت تكتب به "حمير" في جنوب الجزيرة العربية ومن المعروف أنه كان في جنوب الجزيرة خط قديم ينتمي إلى ما سمي بالكتابة الحرفية ويعد نظيراً لتلك الأنواع من الكتابات القديمة مثل الكتابة المصرية والسينائية وغيرها، لكن القائلين بهذه النظرية لا يعنون بالطبع ذلك الخط القديم وإنما يفهم من كلامهم أنهم يرجعون الكتابة العربية إلى نوع من الكتابة اليمنية الحديثة إلى حد ما وهو الخط الذي سموه "بالمسند"([xv]).
وقد ذكر هذا الرأي أو أشار إليه كثير من القدامى والمحدثين، فمن القدامي ذكره ابن حنى الذي يقول: "واعلم أن العرب قد سمت هذا الخط المؤلف من هذه الحروف" الجزم" قال أبو حاتم: إنما سمي جزماً لأنه جزم من المسند أي أخذ منه قال: والمسند خط حمير في أيام ملكهم وهو في أيديهم إلى اليوم في اليمن فمعنى جزم أي قطع منه وولد عنه ومنه جزم الإعراب لأنه اقتطاع الحرف عن الحركة ومد الصوت بها للإعراب([xvi]).
وممن تناولوا هذه النظرية شرحاً وتوضيحاً ابن خلدون الذي لم يكتف بعرض هذا الرأي بل علل له وحاول توضيح مسار ذلك الخط من مصدره القديم إلى موطنه الحديث ومركزه الذي انتشر منه بعد ذلك إلى كثير من أنحاء الأرض يقول: "وقد كانت الخط ا لعربي بالغاً مبلغه من الإحكام والإتقان والجودة في دولة التبابعة لما بلغت من الحضارة والترف وهو المسمى بالخط الحميري وانتقل منها إلى الحيرة لما كان بها من دولة آل المنذر نسباء التتابعة في العصبية والمجددين لملك العرب بأرض العراق ولم يكن الخط عندهم من الإجادة كما كان عند التبابعة لقصور ما بين الدولتين وكانت الحضارة من الصنائع وغيرها قاصرة عن ذلك ومن الحيرة لقنه أهل الطائف وقريش"([xvii]).
وقال بها الرأي من القدامى أيضاً الفيروز آبادي الذي يقول: والجزم: في الخط تسوية الحروف والقلم لا حرف له وهذا الخط المؤلف من حروف المعجم لأنه جزم أي قطع ن خط حمير([xviii]) وقد أشار ابن النديم إلى الخط المسند الحميري وذكر مثالاً لبعض ما اطلع عليه منه يقول: "زعم الثقة أنه سمع مشايخ أهل اليمن يقولون: إن حمير كانت تكتب بالمسند على خلاف أشكال ألف وباء وتاء ورأيت أن جزء من خزانة المأمون ترجمته ما أمر بنسخه أمير المؤمنين عبد الله المأمون أكرمه الله في التراجم وكان في جملته القلم الحميري فأثبت مقاله على ما كان في النسخة([xix]).
ولكن ابن النديم لم يكن من مؤدي هذه النظرية بل ذكرها ضمن آراء مختلفة حول مصدر الخط العربي([xx]).
ومن المحدثين قال بهذه النظرية أحمد حسين شرف الدين حيث يقول: "وكانت هذه الأبجدية (أبجدية المسند) هي الأصلية للعرب الشماليين والجنوبيين إلا أن الجنوبيين ظلوا يستخدمونها كما هي حتى قبيل الإسلام كما استخدمها الشماليون حتى القرن الثاني للميلاد ثم بدأت تتأثر بجارتيها الفينيقية والآرامية وتأثرت هذه الأبجدية أيضاً بالأبجدية البنطية، التي جاءت حاملة عقيلة وصل الحروف مما غير وضعية الحروف تغييراً تاماً([xxi]).
وقد كانت هناك دوافع دفعت القائلين بهذا الرأي إلى اعتناقه منها:
(1) "أن العرب في عصر التدوين كانت تعرف عن طريق الروايات المتواترة أن اليمن قد فرضت خطها المسند على بعض الأمم الشمالية، فاشتقت منه قلما تكتب به والمقصود بذلك اللحيانيون والثموديون والصفويون لأنهم قد اقتطعوا خطوطهم من المسند الحميري فظنت العرب أن المقصود بهذه الروايات هو خطها الذي تكتب به وذلك لأنها كانت تجهل هذه الخطوط السابقة ، كما أنها لا تعرف شيئًا عن النقوش وتفسيرها ومقارنة الكتابات ببعضها([xxii])".
(2) قد يكون من هذه البواعث أيضاً ما يرجع إلى معرفة العرب من أن مؤسسي هذه الدولة "السبئية" في اليمن أصلها من إقليم "الجوف" في شمال نجد والحجاز وهو الإقليم الذي كان الآشوريون يعرفونه باسم "عريبي" وكانت تحكمه ملكات من بينهم ملكة سبأ لهذا لا يستبعد أن تكون هذه العلاقة السياسية وعلاقة الهجرة بين جنوبي البلاد العربية وشمالها سبباً في هذا الاعتقاد([xxiii]). ويتضح من تلك البواعث أن أدلة القائلين بهذه النظرية كانت كما يأتي:
أولاً: التأثير الحضاري لليمن في الأقاليم الشمالية في الجزيرة العربية مما أدى إلى نقل الكتابة. ويظهر هذا واضحاً في كلام ابن خلدون.
ثانياً: الهجرات العربية من اليمن إلى الشمال.
ثالثاً: العلاقات النسبية بين أصل السبئيين وعرب الشمال وقيام بعض الدول في شمال الجزيرة العربية علي أيدي أبناء اليمن أو جنوب الجزيرة.
رابعاً: استدلوا أيضاً بأن هناك صورة متشابهة بين الخط المسند حيث ذكر ناجي زين الدين أن المشابهة موجودة في أربعة عشر حرفاً من حروف المسند([xxiv]).
خامساً: استدلوا بكتابة النقوش الثمودية والصفوية حيث يقولون: "إن من يدرس هذه النقوش بمعرفة وإمعان وتجرد يدرك أن أصل الأبجدية العربية هو الخط المسند وأن العلاقة بين الأبجدية العربية والأنباط إنما هو من التأثر بعد النشأة([xxv])".
سادساً: استدل بعضهم بما روى عن ابن عباس ـ t ـ من أن الخط العربي وصل إلى الحجاز من أهل الحيرة والأنبار ووصل إليهما من طارئ طراً عليهم من أهل اليمن من كنده وقد تعلم هذا الطارئ من الخلفجان كاتب الوحي لهود ـ عليه السلام([xxvi]).
"فيدل هذا على أن الخط المسند هو أصل الخط العربي لأن نبي الله هود ـ عليه السلام ـ أرسل إلى قوم عاد وكان مسكنهم الأحقاف باليمن وهم من العرب البائدة([xxvii])".
هذه هي الأدلة التي ساقها أصحاب هذه النظرية فما موقف البحث العلمي منها؟.
يبدو أن هذه النظرية كسابقتها لا يستند أصحابها إلى دليل مادي فليست هناك علاقة ظاهرة بين خطوط "حمير" في اليمن والخط العربي الذي انتهي إلينا([xxviii]) والعلاقة بينهما لا تتجاوز كونهما قد اشتقا من أصل سامي واحد كما يظهر من مقارنة هذه الحروف الحميرية بما يقابلها من الحروف العربية القديمة التي تختلف عن بعضها اختلافاً شديداً.
عربي: أ د ذ جــ ى م ء ف ص س
حميري:
وفضلاً عن اختلاف الأشكال فقد: أثبتت الدراسات العلمية عن طريق مقارنة الأبجديات السامية الجنوبية بالأبجديات السامية الشمالية بعد العلاقة بين الخط السند والخط العربي الحجازي، فالخط المسند تكتب حروفه منفصلة كما تكتب من أعلى إلى أسفل بينما الخط العربي تتصل حروفه وتتجه في رسمها من اليمين إلى الشمال([xxix]).
هذا مما جعلنا نؤيد هذا الرأي الذي لا يقبل هذه النظرية كتفسير لأصل الكتابة العربية.