سلسلة (عالم ورأي)
تهدف هذه السلسلة إلى استجلاء رأي عالم من علمائنا حول قضية من القضايا، أو عقبة من العقبات التي تواجه أبناء العربية، أو طرح رؤية لاستنهاض الهمم وتحفيز العزائم. فإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر.
الحلقة السابعة والخمسون: الدكتور محمد حسين علي زعين – أستاذ النحو والصرف والعروض المساعد بقسم اللغة العربية بكلية التربية للعلوم الإنسانية جامعة كربلاء-العراق، ورأيه في دور المجامع اللغويَّة في الحفاظ على اللغة العربيّة في الحياة العامّة:
إنَّ إصدارَ القوانين والتَّشريعات التي تكفل للغة العربيَّة حقَّ الحماية والدّفاع عنها والمحافظة عليها ليس بِدَعًا، إذ أصدرت الجزائرُ سنة 1991م (قانون تعميم استعمال اللغة العربيَّة)، وبعد ذلك أنشأت (المجلس الأعلى للغة العربيَّة) سنة 1996م لغرض المتابعة والتّنفيذ والإلزام، وكذلك قامت المملكة الأردنيّة الهاشمية مؤخّرًا بتشريع قانون حماية اللغة العربيَّة ذي الرّقم (35) لسنة 2015م.
وقد قامت فرنسا بعملٍ مشابهٍ من أجل الحفاظ على لغتها، إذ أصدرت قوانين تحمي اللغة الرسميَّة لها، وفرضت استعمالها في كلِّ النصوص المكتوبة، ومنعت استعمال الألفاظ والعبارات الأجنبيَّة، واتَّخذت اجراءاتٍ بحقِّ مَنْ يخالفُ ذلك ، وقامت باستحداث (اللجنة العليا للدِّفاع عن اللغة الفرنسيَّة) التي تحوَّلت سنة 1972م إلى (اللجنة العليا للغة الفرنسيَّة)، فضلًا عن الجمعيّات التي تُعنَى بسلامةِ اللغة الفرنسيَّة من مثل:( المنظمَّة الدوليَّة للفرنكفونيَّة) التي نشطت في السنوات الأخيرة نشاطًا ملحوظًا من خلال أمانتها العامَّة، ودعم الدولة لها، وحيوية وسائل الإعلام وقيامها بتكريم مَنْ يكتب باللغة الفرنسيَّة من غير الفرنسيّين، وتقديم الجوائز لهم والمكافآت التشجيعيَّة.
إنَّ التشريعَ اللغويّ باتَ ضرورةً مُلِحَّةً من أجل الحفاظ على سلامة اللغة العربيَّة؛ ليكون سندًا للعاملين في حقلها، ودعمًا للمجامع والمؤسَّسات ووسائل الإعلام، واعتزازًا بها، وتقديرًا لها، فهي قبل كلِّ شيء لغة القرآن الكريم، ولسان الملايين في أنحاء المعمورة. أمَّا (العراق) فقد تنبَّه مبكِّرًا إلى محاولات طمس هوية اللغة العربيَّة، والهجمة الشَّرسة من الصَّديق والعدو على حدٍّ سواء؛ إذ إنَّ هناك من أبناء العربيَّة مَنْ عَمِل على تفتيت نسيج اللغة العربيّة وهدمها بدعوى أنَّها صعبةٌ ومعقَّدةٌ، وهناك مَنْ هم ليسوا من أبناء العربيَّة رفعوا معاول الهدم نفسها التي رفعها أبناء العربيَّة وللأسباب نفسها، فضلًا عن أسبابٍ أخرى منها أنَّ اللغة العربيَّة ليست لغةً عالميَّة وتحتاج إلى جهودٍ كبيرة لكي تصبح ضمن دائرة ما يُسَمَّى بـ (العولمة الجديدة)؛ ومن هنا عمد المُشرِّعُ العراقيّ إلى إصدار قوانين وتشريعات تحافظ على كيان هذه اللغة وتدرأ عنها كلَّ خطرٍ يهدِّد وجودها، فأصدر العراقُ سنة 1977م ( قانون الحفاظ على سلامة اللغة العربيَّة ) بناءً على مقترحٍ مُقدَّمٍ من المَجْمَع العلميّ العراقيّ في نطاق خطَّةٍ للنهوض باللغة العربيَّة، وبعد ذلك قام بإنشاء (الهيئة العليا للعناية باللغة العربيَّة) سنة 1983م من أجل تنفيذ مواد قانون الحفاظ على سلامة اللغة العربيّة، ولا يمكن تجاهلُ الدور الكبير الذي قام به المَجْمَع العلميّ العراقي منذ إنشائه في سنة 1947م حتى يومنا هذا في الحفاظ على لغة الضَّاد وسلامتها، إذ كان هذا الدور وما يزال مؤثِّرًا سواءٌ قبل إصدار هذه التَّشريعات والقوانين أم بعد تشريعها وإصدارها، وقد عملت هذه المؤسَّسات والتّشريعاتُ مجتمعة على إبراز دور اللغة العربيَّة وتنميتها في شتَّى مناحي الحياة في داخل العراق ولاسيما ما يتعلَّق منها بالحفاظ على المسميات العربيَّة للمحلّات التجاريَّة والمعامل والشَّركات؛ لكون هذه المسألة باتت تُشكِّلُ قضيَّةً مهمَّةً في داخل العراق وفي داخل البلدان العربيَّة، وقد أصبحت عينا العربيّ لا تقعُ إلّا على أسماء غريبة (منها ما هو مكتوب بلهجةٍ عاميَّة ومنها ما هو مكتوب بألفاظ أجنبيَّة) وهو يقطع طريقه كلَّ يومٍ في داخل بلده العربيّ، على أنَّه حينما يتجوَّل في البلدان الغربيَّة لا يجد اسمًا إلّا بلغة تلك البلدان، فالتفت المُشرِّعُ العراقيّ إلى هذه المسألة وأولاها جانبًا كبيرًا من اهتمامه، وأصدرَ لها عِدّةَ تشريعاتٍ وقوانين تكفلُ للغة العربيَّة مكانتها المرموقة جاعلًا تلك القوانين والتَّشريعات واجبة التنفيذ مُلزمًا في الوقت نفسه الجهات المختصَّة والمؤسَّسات الرسميَّة وغير الرسميَّة العمل بها، واضعًا عقوبات رادعة بحقِّ مَنْ يخالف تلك القوانين والأنظمة والتَّشريعات.
ومن يراقب عمل المجامع اللغويَّة في الوطن العربيّ يخرج بالنّتائج الآتية:
أوّلًا: المجامع اللغويّة والعلمية التي تُعنى بسلامة اللغة العربية في الوطن العربيّ لها دورٌ كبيرٌ في العناية باللغة العربية، وجعلها قادرةً على استيعاب المستجدات ومواكبة التطور المدني والعلمي والحضاري، وقد عملت منذ إنشائها على وضع الدراسات والمصطلحات العلمية والألفاظ الحضارية، ولكن مما يُؤسَف له أنَّ هذا الجهد الكبير لم يُنتفع منه كثيرًا؛ لكون هذه المجامع لا تمتلك سلطة تنفيذية كتلك السلطة التي يمتلكها المَجْمَع العلمي العراقي، إذ نصَّت المادة (التاسعة) من قانون الحفاظ على سلامة اللغة العربيَّة ذي الرقم (64) لسنة 1977م على أنْ: "يكون المَجْمَع العلميّ العراقيّ المرجعَ الوحيد في وضع المصطلحات العلميَّة والفنيَّة، وعلى الأجهزة المعنية الرجوع إليه بشأنها"، فضلًا عن ذلك فإنَّ المَجْمَع يقوم بمنح الموافقة على تسمية الشركات والمحال التجارية بأسماء عربية قبل أن تمنحها الجهات المختصة الإجازات الرسمية.
ثانيًا: يُعَدُّ العراق في مقدمة البلدان العربيّة التي شرَّعت قوانينَ للحفاظ على سلامة اللغة العربيَّة، إذ إنَّ قانون الحفاظ على سلامة اللغة العربيَّة لعام 1977م يُمَثِّلُ باكورة التَّشريع اللغويّ في الوطن العربيّ.
ثالثًا: التّشريع اللغويّ ضرورةٌ مُلِحَّةٌ في كلِّ بلدٍ عربيّ، وهو يُمّثِّلُ جوهرًا لديمومة اللغة العربيَّة والحفاظ على هويتها من الضِّياع والاندثار، وسندًا إلى العاملين في حقل اللغة العربيّة وداعمًا للمجامع والمؤسَّسات ووسائل الإعلام، واعتزازًا بهذه اللغة وتقديرًا لها؛ لكونها لغة القرآن الكريم ولسان الملايين في أنحاء المعمورة.
رابعًا: المَجْمَع العلمي العراقي هو الجهة الرسمية الوحيدة في العراق المسؤولة عن إجازة اسماء المحلّات التّجاريَّة والمعامل والمصانع والشّركات، ومدى ملاءمتها للعربيّة الفصيحة.
خامسًا: يمكنُ القول: إنَّ الفضلَ في جعلِ مسميَّات المحلات التّجاريّة والشّركات والمعامل والمصانع في العراق عربيّةً خالصةً يعود إلى ثلاثة أسباب رئيسة:
أ- إنَّ رئيس الهيئة العليا للعناية باللغة العربية ورئيس هيئة العناية باللغة العربية حتى إلغاء الهيئتين، ومن ثمَّ رئيس المَجْمَع العلمي العراقي ولاسيما بعد عام 1995م قد مُنِحوا بموجب القانون صلاحيات الوزير المُختص.
ب- إنَّ مرجعيَّة الهيئة العليا للعناية باللغة العربية وهيئة العناية باللغة العربية حتى إلغاء الهيئتين، وكذلك مرجعيَّة المَجْمَع العلمي العراقيّ بعد عام 1995م مرتبطة بأعلى سلطة في البلد.
ج-إنَّ التَّشريعات اللغويَّة في العراق تضمَّنت عقوباتٍ صريحةً ورادعةً بحقِّ المخالفين لتلك القوانين والمتجاوزين على اللغة العربية وسلامتها.
سادسًا: إنَّ التَّشريعَ اللغويّ أحد أجنحة الحفاظ على سلامة اللغة العربيَّة، والوسائل الأخرى جناحه الآخر، وستزدهرُ اللغةُ العربيَّة إنْ نهضت بهذينِ الجناحين، وستبقى لغة العلوم والآداب والفنون على الرَّغمِ مِمَّا تتعرَّض له من تحدياتٍ، ومن تنكُّرٍ وتزييفٍ وبهتانٍ لا يطالُ غيرها من اللغات.
سابعًا: لن يُضمَنَ تطبيق التّشريع اللغويّ ما لم يُنَصَّ على عقوبةِ مَنْ يخالف القانون، أو يُسيء إلى لغةِ القرآنِ الكريم، وهو ما نصَّ عليه القانون العراقيّ والقانون الجزائريّ والقانون الأردنيّ الذي شُرِّع في المدَّةِ الأخيرة.
ثامنًا: كان المَجْمَع العلميّ العراقيّ – وما يزال – حارسًا أمينًا للغة العربيَّة في العراق؛ إذ إنَّه تارةً يراقبُ التَّشريعات اللغويَّة التي تُصدرها الهيئات المعنية باللغة العربيّة في داخل العراق ويعمل على سلامة تنفيذها مع إبداء المشورة والنّصح، وتارةً أخرى يقوم هو بتَّشريع القرارات التي تحافظ على سلامة اللغة العربيّة وتنفيذها.
التّوصيات:
نعتقدُ أنَّه من غير الممكن الحفاظ على سلامة اللغة العربيَّة بصورة عامةٍ، والحفاظ على المسميات العربية للمحلات التجارية والمعامل والمصانع والشركات بصورة خاصة إلّا بوجود تشريعٍ لغويّ يُعلي من أهميتها، ويصونها من العبث والفساد ، ويتابع شؤونها ويضع خطط تنميتها مع التّأكيد على وضع عقوباتٍ رادعةٍ بحقِّ من يحاول الإساءة لهذه اللغة وتشويهها والتجاوز عليها، وأنْ يوضعَ هذا التَّشريع بالاستعانة بالمجامع اللغويَّة العربيَّة والمؤسَّسات العلميَّة والثَّقافيَّة التي تُعنى بالحفاظ على سلامة اللغة العربيّة، ومن أجل أن يُنفَّذ هذا المشروع لا بُدَّ من وجود هيئةٍ تتابع وضع أهداف التشريع ومواده، على أنَّ تشكيل هذه الهيئة أو المجلس (على غرار الهيئة العليا للعناية باللغة العربية في العراق- التي أُلغيت فيما بعد - والمجلس الأعلى للغة العربيّة في الجزائر) لا يناقض وجود مجامع لغويَّة؛ لأنَّ لكلٍّ منها واجباتٍ وأهدافًا، والعناية باللغة العربيَّة بعض تلك الأهداف في المجامع التي لا تمتلك سلطة التَّنفيذ.
تأسيسًا على ما تقدَّم نقترحُ أن يُصارَ إلى تشكيل هيئة عليا للعناية باللغة العربية أو مجلس أعلى للغة العربيّة في داخل كلِّ بلدٍ عربيّ إلى جانب المَجْمَع اللغوي (إنْ كانَ البلدُ يضمُّ مَجْمَعًا لغويًّا)؛ لتقع على عاتق تلك الهيئة أو ذلك المجلس مسؤوليّة تنفيذ التّشريع إنْ لم يُنصّ على ذلك في قوانين المجامع، وأرى أن يتضمَّن قانون هذه الهيئة أو هذا المجلس ما يأتي:
أولًا: العناية باللغة العربيَّة والحفاظ على سلامتها وأصالتها وجوهرها، وتيسير استعمالها، وجعلها خاليةً من الألفاظ العاميَّة والأجنبيَّة.
ثانيًا: الرَّقابة والإشراف على تنفيذ التَّشريع اللغويّ، واقتراح مشروعات القوانين والأنظمة المتعلِّقة بشؤون اللغة العربيَّة.
ثالثًا: إقرار الخطط اللغويَّة التي تضعها الوزارات والمؤسَّسات والجامعات.
رابعًا: نشر الوعي اللغويّ بين المواطنين في وسائل الإعلام المختلفة.
خامسًا: إصدار مجلة شهريّة أو فصليَّة تُعنى باللغة العربيّة، ووسائل نموها، ونشر المصطلحات العلميَّة والألفاظ الحضاريَّة العربيَّة.
سادسًا: العمل على إنشاء قناة فضائيّة تكون متخصصة بقضايا اللغة العربية وسلامتها.
سابعًا: تخصيص موقع يُعنَى باللغة العربية وقضاياها على الشَّبكة العالمية العنكبوتيَّة (الإنترنت)، ويمكن من خلال هذا الموقع التّواصل مع الجمهور للإجابة عن التّساؤلات والاستفسارات التي تُعنَى باللغة العربيّة؛ إذ نلحظ أنَّ هناك فجوةً رقميَّة بين الكثير من المجامع اللغويّة العربيّة أو المؤسَّسات التي تُعنَى بقضايا اللغة العربيّة والباحثين، وفي هذا المجال يمكنُ الإفادة من تجربة (مَجْمَع اللغة العربيّة على الشّبكة العالميّة) في مكة المكرَّمة الّذي أُسِّسَ في 6 / 3 / 1433هـ الموافق 29 / 1/ 2012م ويُعَدُّ أوّلَ مَجْمَعٍ تفاعليٍّ على الشّبكة العنكبوتيّة، وقد استطاع في مُدَّةٍ قصيرة أن يُحَقِّقَ منجزاتٍ لغويّة لعلَّ من أهمّها إصدار مجلة (إلكترونيّة – ورقيّة)، فضلًا عن إصدار مجموعةٍ من القرارات والتّنبيهات اللغوية وكلّ ما من شأنه الحفاظ على سلامة اللغة العربيّة وديمومتها.
ثامنًا: عقد المؤتمرات اللغويّة والندوات التي تناقش قضايا اللغة العربية ومشكلاتها ووضع الحلول المناسبة.
تاسعًا: لابد للهيئة أو المجلس أن تكون لهما مرجعية ارتباط؛ لذا يُصار إلى جعل ارتباطهما بأعلى سلطة في البلد وأن يكون رئيس الهيئة أو المجلس بدرجة وزير من أجل أن تكون القرارات ملزمة مع التّمتُّع بسلطة التّشريع وسلطة التَّنفيذ.
عاشرًا: أن يتم تشكيل الهيئة أو المجلس من وزراء التّربية والتّعليم العالي والثّقافة والإعلام، فضلًا عن ممثل عن المَجْمَع اللغوي (إن كان في البلد مَجْمَعٌ لغويٌّ)؛ لكون هؤلاء أقرب إلى اللغة العربية من غيرهم وأكثرهم انتفاعًا بها، ويمكن إضافة بعض المختصّين باللغة العربية إلى هذا التّشكيل.
حادي عشر: لابُدَّ أنْ تتضمَّنَ موادُ الهيئة أو المجلس عقوباتٍ صريحةً ورادعةً بحقِّ المخالفين لأحكام مواد الهيئة أو المجلس وقوانينهما.
حوار ونقاش: مصطفى يوسف